| جورج علم |
أخذتنا ورقة الأميركي توم برّاك ـ بخفّة ريشة – نحو البعيد. شغلت حيّزاً من الإهتمام في الفضاء الإعلامي، وراحت قارئة الفنجان تبصّر حول مضمونها، وعديد وريقاتها، وما إذا كانت “لجنة المستشارين” قد تمكّنت في فكّ ألغازها.
بإختصار، إنها خريطة طريق جديدة لحمل “إسرائيل” على التقيّد بوقف إطلاق النار، كان قد إلتزم به لبنان فجر يوم الأربعاء 27 تشرين الثاني الماضي.
يعاين لبنان إنقلاباً أميركيّاً على الأميركي. إنقلاب الإدارة الحاليّة على السابقة. إنقلاب برّاك على خريطة الطريق التي إعتمدها آموس هوكشتاين. قدّم الأول مؤخراً مجموعة إقتراحات تؤدي، في حال الأخذ بها، إلى مسار مختلف قد يحمل بنيامين نتنياهو على الإمتثال، بعد تنقيح النسخة الأميركيّة الجديدة، وإدخال تعديلات عليها.
وتدور حول ورقة برّاك أسئلة كثيرة:
أولاً ـ هل يطالب لبنان بضمانات أميركيّة قبل أن يقدّم جوابه على الورقة، ترغم “إسرائيل” على الإنسحاب، وعدم الإعتداء مستقبلا؟
وزير الخارجيّة الإيراني عبّاس عراقجي، لفت الإنتباه، قال إن إيران لن تبدأ المفاوضات مع الولايات المتحدة، إلاّ بعد حصولها على ضمانات بعدم الإعتداء. هل يحصل عليها، أم تأتي الكولسات بخيارات أخرى؟ الجواب ملكه. أما لبنان المعتدى عليه، والمستهدف، أحوج ما يكون إلى هذا النوع من الضمانات، قبل الدخول في حقل الألغام!
ثانياً ـ هل الأفكار المطروحة في ورقة برّاك تحظى بموافقة إسرائيليّة ضمنيّة، أم أنها إستدراج أميركي لموقف لبناني رسمي يحمله من بيروت ليعرضه على تل أبيب، كي تقول كلمتها، وتفرض شروطها؟
ثالثاً ـ هل برّاك مخوّل لقيادة دبلوماسيّة مكوكيّة بين بيروت وتل أبيب، وعواصم إقليميّة ودوليّة مهتمّة، على غرار ما قام به هوكشتاين، ونجح في التوصل إلى إتفاق وقف إطلاق النار؟
رابعاً ـ يبدو وكأن لبنان الرسمي قد وضع كامل بيضه في السلّة الأميركيّة، متجاهلاً الأشقاء، والأصدقاء، واللجنة الخماسيّة.
لم نر موفداً لبنانيّا رفيعاً على “قدر وقيمة” يجول على عواصم دول الخماسيّة، وتحديداً: القاهرة، الرياض، الدوحة، باريس، وأيضاً عواصم دول شقيقة وصديقة وازنة وفاعلة، يناقش معها ما هو معروض ضمن ورقة برّاك، وكيف يستحسن توفير الدعم للموقف اللبناني كي يتمكن من بلوغ شاطىء الأمان!
قد يقول قائل إن الحكومة لا تقصّر، لكن ما يظهر على شاشة الأيام من تطورات مصيريّة، يؤكد الحاجة الملحّة إلى ثقل دبلوماسي إستثنائي يملأ الفراغات المترامية، ويعكس إتجاهات الريح المغايرة، لتهّب وفق ما تشتهي الأشرعة اللبنانيّة.
ورقة برّاك، وما تتضمّن، تشكّل مساراً ملغّماً، كثير المنعطفات، وأيّاً يكن التفهّم الأميركي للخصوصيّة اللبنانيّة، فإنه لن يرتقي إلى مستوى التعاطف مع “إسرائيل”، وهذا ما يستوجب حراكاً سريعاً هادفاً لإستنفار الصداقات كي تشكّل ثقلاً داعماً، خصوصاً إذا كان المطلوب أكثر من وقف لإطلاق النار، وأبعد من ترسيم الحدود، ومن القرار 1701، ومن الإفراج عن الأسرى، والمعتقلين.
يتحدث الرئيس الأميركي دونالد ترامب كثيراً هذه الأيام عن الإتفاق الإبراهيمي، ورفع العقوبات عن سوريا، والمفاوضات التي يشرف عليها، لفتح صفحة جديدة بين سوريا و”إسرائيل”، وإلحاق المقطورة السوريّة بالقطار الإبراهيمي.
ويتحدث قليلاً عن لبنان، لكنه يؤكد إهتمامه الشخصي بملفه، وأعطى إشارات إلى إحتمال لقائه مع الرئيس جوزاف عون في أيلول المقبل على هامش إنعقاد الدورة العاديّة للجمعيّة العامة للأمم المتحدة في نيويورك، إذا سمحت الظروف، وساعدت التطورات.
ويستعدّ وزير خارجيته ماركو روبيو إلى القيام بجولة على بعض عواصم دول المنطقة تحت شعار “التطمين والإطمئنان” بعد الحرب الإسرائيليّة ـ الأميركيّة – الإيرانيّة، تحدّد مواعيدها في ضوء ما ستسفر عنه محادثات بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض من مخارج وتفاهمات حول غزّة، ولبنان، وسوريا، وإيران، واليمن.
وأيضاً في ضوء ما ستسفر عنه المساعي الدبلوماسيّة الناشطة، سواء من قبل الخارجيّة الإيطاليّة، أو الإتحاد الأوروبي، لإستئناف المفاوضات الإيرانيّة ـ الأميركيّة.
إن دبلوماسيّة “التطمين والإطمئنان” تستدعيها العلاقات السعوديّة ـ الأميركيّة، والعلاقات الخليجيّة ـ الأميركيّة ـ العربيّة.
إن الزيارة الناجحة التي قام بها ترامب إلى الرياض، والدوحة، وأبو ظبي، ولقائه قادة دول مجلس التعاون الخليجي، بحاجة إلى مصارحات ومنشّطات بعد الوهن الذي أصابها نتيجة الحروب الكثيرة في المنطقة، والتي تفتعلها “إسرائيل”، بمشاركة أميركيّة.
ويبدأ “التطمين والإطمئنان”، بأن يُثبت ترامب بأنه الرقم واحد في ملفات الشرق الأوسط، وليس نتنياهو. وأن كلمة الفصل في واشنطن، وليست في تل أبيب. وأن الحديث عن توسيع الإتفاق الإبراهيمي يجب أن يمرّ أولاً بالمبادرة العربيّة للسلام التي أقرتها قمّة بيروت، على قاعدة “الأرض مقابل السلام”، وعلى قيام الدولة الفلسطينيّة في إطار “حل الدولتين”.
ويجب أن يمرّ ثانياً بتكريس “حسن الجوار” بعد الحرب الإسرائيليّة ـ الأميركيّة ـ الإيرانيّة. بحيث يأخذ التفاهم السعودي ـ الإيراني الذي رعته الصين قبل نيّف وعام، بعداً تنفيذيّاً محوره إحترام سيادات دول المنطقة، وإستقرار حدودها، وأمنها، وعدم التدخل في شؤونها الداخليّة.
ويجب أن يمرّ ثالثاً، بتصدير الإستقرار، والإزدهار، بديلاً عن تصدير “الثورة”.
ويجب أن يمرّ أخيراً بالجسر اللبناني ـ السوري. لا يكفي رفع العقوبات عن سوريا، بل يجب رفع الهيمنات والإحتلالات، وخصوصاً الإحتلال الإسرائيلي في سوريا، كما في لبنان.
وأقل المطلوب ان يضع الأميركي حدّاً للغطرسة الإسرائيليّة، عندها يمكن تلمّس بعض الإطمئنان بأن ورقة برّاك لن تأخذ لبنان نحو متاهات جديدة مكلفة ومهلكة!














