| ناديا الحلاق |
لم يعد صوت خرير المياه في الصنابير مألوفاً، في بيروت، ولا مشهد الخزّان الممتلئ أمراً مضموناً. المدينة التي كانت يوماً منارة للحداثة والحياة الحضرية في الشرق، باتت اليوم غارقة في ظمأ مزمن، لا يقتصر على شح الموارد، بل يتفاقم بفعل الإهمال، الفساد، وغياب الدولة عن مسؤولياتها الأساسية.
الواقع المائي في العاصمة اللبنانية لم يعد مجرد خلل في الخدمة العامة، بل تحوّل إلى أزمة تمسّ الحياة اليومية لعشرات آلاف العائلات. في أحياء كثيرة، تنقطع المياه لأيام، وأحياناً لأسابيع، دون سابق إنذار أو توضيح. الأهالي يُجبرون على شراء المياه بأسعار خيالية، وسط انهيار اقتصادي يضرب القدرة الشرائية في الصميم. أما صهاريج المياه، التي كانت تعتبر حلاً اضطرارياً، فقد تحوّلت إلى قطاع غير منظم، يستغل الحاجة ويبتز الناس باسم العطش.
رحلة يومية في البحث عن قطرة ماء
منى، من سكان برج أبي حيدر، تبدأ نهارها كل يوم بمحاولة “اصطياد” الماء، على حدّ تعبيرها. تقول بمرارة: “نحن نعيش على أعصابنا. تصل المياه مرة واحدة في الأسبوع، وإن انخفض الضغط، نمضي الأيام من دون نقطة واحدة. كل تفاصيل الحياة مرتبطة بالماء، لكن الدولة غائبة تماماً”.
وفي منطقة الطريق الجديدة، يروي أبو سامي مأساته اليومية مع انقطاع المياه، ويعبّر عن غضبه قائلاً: “نركض يومياً خلف صهريج المياه. باتوا يتصرفون وكأن الماء ملك لهم وحدهم. عليك أن تنتظر، وتقبل بالسعر المفروض، وتدفع نقداً فوراً. ومن أين؟ من راتب لا يكفي حتى لتأمين الكهرباء والدواء!”.
من أين تأتي مياه الصهاريج.. ومن يُراقب؟
وسط هذه الفوضى، يبرز سؤال أساسي: من أين تأتي كل هذه الكميات التي تملأ صهاريج التوزيع يومياً، وهل تتم العملية ضمن أطر قانونية وصحية؟
تتنوع مصادر المياه التي تعتمدها صهاريج التوزيع بين ما هو رسمي وما هو بديل، حيث يُظهر الواقع أن عدداً كبيراً من هذه الصهاريج يقوم بتعبئة خزاناته من آبار ارتوازية خاصة، يشترك في استثمارها أكثر من موزّع، ويعملون على صيانتها وتخزين المياه فيها خلال أشهر الشتاء بهدف بيعها صيفاً بكميات تجارية. وتُعتبر منطقتا بشارة الخوري وقصقص من أبرز النقاط التي تضم هذا النوع من الآبار في العاصمة.
أما في المناطق الواقعة خارج بيروت، فيلجأ الموزعون إلى ينابيع طبيعية أو برك مياه محلية، تُزوّد بمضخات لسحب المياه بعد تنسيق مسبق مع البلديات. ورغم أن هذه البدائل تلبّي الحاجة جزئياً، إلا أنها تثير شكوكاً حول جودة المياه المباعة ومدى مطابقتها للمعايير الصحية، في ظل غياب واضح للرقابة أو التنظيم الرسمي.
في المقابل، تؤكد مصادر أن بعض أصحاب الصهاريج يقومون بتعبئة المياه من منشآت تابعة لمؤسسة المياه الرسمية، ما يطرح تساؤلات مشروعة: هل تتم هذه التعبئة ضمن إطار قانوني؟ وهل تُدفع الرسوم المناسبة؟ وما مصير المياه التي يُفترض أن توزّع مجاناً على المواطنين؟ هذه الأسئلة لا تزال من دون إجابة واضحة، في ظل غياب الشفافية والمحاسبة.
تعليق وزارة الطاقة والمياه: “نعلم… ونعمل”
وفي هذا الإطار، يعترف مصدر في وزارة الطاقة والمياه، لموقع “الجريدة”، بوجود هذه الظاهرة، قائلاً: “نعم، هناك صهاريج تعبّئ من منشآت الدولة، وبعضها يحصل على تراخيص مؤقتة بسبب الحاجة الملحّة. لا ننكر أن هناك فوضى واستغلالاً في بعض الأحيان، لكننا لا نغطي أي مخالفات، وندعو المواطنين للتبليغ عن أي تجاوزات”.
وأضاف المصدر أن “الوزارة تتابع هذا الملف ضمن خطة إصلاحية وضعتها الحكومة الحالية، التي تضع أزمة المياه ضمن أولوياتها، وتسعى إلى حلحلة تدريجية تشمل دعم محطات الضخ، تأمين الكهرباء، وإعادة تشغيل المشاريع المتوقفة”. إلا أن المسؤول نفسه شدد على أن “الحلول الجذرية ليست فورية، وتتطلب وقتاً، واستقراراً مالياً، وإرادة سياسية جدية”.
بين التسرّب والفوضى… من يتحمّل المسؤولية؟
إلى جانب فوضى الصهاريج، هناك ما هو أخطر: شبكة توزيع المياه في بيروت باتت مهترئة، حيث تُهدر آلاف الأمتار المكعبة يومياً بسبب التسربات، دون أن يتم إصلاحها أو مراقبتها بجدية. مؤسسات الدولة المعنية بالمياه عاجزة عن تشغيل محطاتها بسبب الانقطاع المزمن للكهرباء، وغياب التمويل، وانخفاض عدد الموظفين المؤهلين.
أزمة المياه هنا ليست نتيجة شحّ فعلي في الموارد، بل نتيجة سوء إدارة وسكوت مزمن عن فوضى منظمة تقف خلفها حسابات ومصالح متشابكة.
رغم الصورة القاتمة، يشير بعض المطلعين إلى أن هناك جهوداً تُبذل من خلف الكواليس، تشمل محاولة إدخال الطاقة البديلة إلى محطات المياه، وصيانة بعض الخطوط المهترئة، والتواصل مع الجهات المانحة لتمويل مشاريع طال إهمالها. كما أن المجتمع المدني وبعض البلديات بدأوا بتشكيل لجان رقابة شعبية لتوثيق الهدر، وتنظيم توزيع عادل للمياه بين الأحياء.
لكن هذا كلّه يبقى محدوداً، في ظل غياب خطة وطنية واضحة، وانشغال المسؤولين بالحسابات السياسية، لا بحاجات الناس.
في نهاية المطاف، لا تمثّل أزمة المياه في بيروت مجرد خلل تقني أو نقص في التمويل، بل تعكس فشلاً شاملاً في إدارة الحياة اليومية للمواطن. الدولة غائبة، المؤسسات منهارة، الفساد مستشري، والناس عطشى. وبينما تتلاعب الصهاريج بالأسعار، وتسرق المياه من مصادرها الرسمية أو شبه الرسمية، يبقى المواطن أسير عجزه، يشتري ما يفترض أن يكون حقه بالدَّين أو بالذل.














