| جورج علم |
لا يمكن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يخسر نظامين حليفين في الشرق الأوسط: سوريا، وإيران.
كانت “سوريا الأسد” موقع نفوذ ميداني، وتبقى إيران موقع ثقل استراتيجي، وعلى الضفتين مصالح، وتحالفات، وأهداف عابرة للحدود.
وما يجري في الميدان الشرق أوسطي، مجرد إنقلاب مسلّح على سايكس ـ بيكو، والتفاهمات الدوليّة، وما أفرزته بعد الحرب العالميّة الثانيّة من خرائط وكيانات في المنطقة.
ولم يتردّد بنيامين نتنياهو في تشبيه “طوفان الأقصى” بالسدّ الذي إنهار ليطوف المدّ العدواني – التوسعي ويأخذ بطريقه المحور الممانع، وما وراءه من دعائم، وإسنادات.
يقدّم نتنياهو نفسه اليوم، عبر “البروباغندا الإعلاميّة”، على أنه المتعهّد التنفيذي لمشروع الشرق الأوسط الجديد. هل هو على قدر هذه المهمّة، ام أنه مجرّد “ضابط إرتباط” في فريق العمل الأميركي المخطّط، والمشرف على حسن سير التنفيذ؟
وتبدو الشعارات المتداولة مجرّد ذرائع لتبرير الوحشيّة الحديثة المدجّجة بأفتك أنواع الأسلحة، والهادفة إلى إحداث الزلزال المدمّر لجغرافيات الشرق الأوسط، واستبدالها بأخرى جديدة لا تزال مجهولة المواصفات، ولم تتضح لغاية الآن خطوط الطول والعرض التي ستستند إليها.
كان تخصيب اليورانيوم، الشعار الذي إستخدمه نتنياهو لتبرير عدوانه على إيران، وأيدته الولايات المتحدة، ومهدّت له الطريق الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة، عندما أدان مجلس المحافظين طهران بتهمة عدم إمتثالها لإلتزاماتها النوويّة.
أسقط الرئيس بوتين القناع، وكشف الخداع، وأعلن أن ما تقوم به “إسرائيل” في إيران يتعدّى البرنامج النووي، ويهدف إلى تحقيق بنك من الأهداف الأميركيّة ـ الإسرائيليّة التي خطّط لها “الحاسوب” المشترك بهدوء، وطول أناة، وأدرجها بإتقان وفق سلّم أولويات.
عرض وساطة، وأبلغ نظيره الأميركي دونالد ترامب إستعداده لترتيب طاولة حوار تنهي الأعاصير المدمّرة، لكن الأخير لم يكتم غيظه، قال هازئاً “فلينه الصراع في أوكرانيا أولاً!”.
“أوكرانيا”، بالنسبة لبوتين، ليست أزمة صواريخ باليستية، ولا تخصيب عالي النسبة للمواد المشّعة، ولا أجهزة طرد متطوّرة، إنها الجبهة التي يحاول حلف شمال الأطلسي “الناتو” أن يتخندق على طول تضاريسها مع روسيا الإتحاديّة. إنها التهديد المباشر للأمن القومي الروسي. إنها الساحة التي حولتها إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، بالتنسيق والتعاون مع قادة القارة الأوروبيّة العجوز، إلى مرمى لإختبار أحدث ما تنتجه مصانعهم من أسلحة حديثة، في مواجهة السلاح الروسي.
إن الرئيس الأميركي يعرف ذلك، ولأنه يعرف، فإن نظيره الروسي لن يقف صامتاً مكتوف اليدين أمام ما يجري من تحولات كبرى في هذه المنطقة الغنيّة بالنفط، والغاز، والموارد، والتي تقف على خط تماس بين قارات ثلاث.
يعرف بوتين بأن ترامب أعلن عن حلّ للأزمة الأوكرانيّة فور وصوله إلى البيت الأبيض، وفي مهلة زمنيّة لا تتعدّى الأربع والعشرين ساعة. وعندما وصل، تبيّن أنه لا يريد أن يحلّ بقدر ما يريد الإستيلاء على المعادن النادرة التي تزدهر بها أوكرانيا، وقد أرغم الرئيس الأوكراني على التوقيع مكرهاً على إتفاق يمنح الإدارة الأميركيّة هذا الإمتياز.
ويعرف بوتين كيف إنقلب الوضع في سوريا، وطار الرئيس الحليف من القصر الرئاسي في دمشق ليحلّ لاجئاً في موسكو، وكيف أن ترامب رحب برئيس المرحلة أحمد الشرع، ورفع العقوبات الأميركيّة في محاولة مكشوفة لإخضاع سوريا في “بيت الطاعة”.
ويعرف بوتين أن العدوان الإسرائيلي على إيران، كان البداية والمنطلق لتنفيذ مشروع مخطّط له بإتقان ما بين واشنطن وتل أبيب على المستويات العسكريّة، والأمنيّة، واللوجستيّة، والمخابراتيّة، والسياسيّة، والإقتصاديّة، والدبلوماسيّة. وكان ترامب هو البادىء والمبادر عندما دعا إلى حوار أميركي ـ إيراني، لم يشارك فيه نتنياهو مباشرة، لكن “ملائكته” كانت حاضرة، وكان حوار غير متكافئ، وأشبه بسرد للإملاءات، وما هو مطلوب من طهران تحقيقه لكي يكون هناك إنقلاب أبيض غير مصبوغ بالدماء.
ويعرف ترامب أنه بعد جولات خمس من الضغط، لم يتحقّق الإذعان، فكانت كلمة السر، وأطلق نتنياهو العنان لعدوانه قبيل إنعقاد الجولة السادسة، وقد إعترف ترامب شخصيّاً بان تل أبيب وضعته في الأجواء قبيل إنطلاق الهجوم.
ويعرف بوتين أن الهدف من العدوان أبعد من التخصيب، ومن البرنامج النووي، ومن تدمير المفاعلات. الهدف تغيير النظام، والسعي إلى قيام نظام بديل خاضع تماماً للإملاءات الأميركيّة ـ الإسرائيليّة، تكون خطوته الأولى فكّ التحالف الإستراتيجي الذي وقّعه شخصيّاً مع الرئيس مسعود بزشكيان، في مكتب بطرس الأكبر في موسكو، والذي دخل حيّز التنفيذ قبل أسابيع قليلة، وأيضاً تمزيق الإتفاق النفطي الإيراني ـ الصيني، والذي تعتمد بكين على إمداداته لتشغيل مصانعها، وتطوير صناعاتها.
وتبدو ملامح الشرق الأوسط الجديد الذي يسعى اليه ترامب، بالتنسيق والتعاون مع نتنياهو، وفق الاتي:
• هيمنة أميركيّة شبه مطلقة على كيانات المنطقة، ومواردها، وإقتصادياتها، وقراراتها.
• إفساح المجال أمام متطرفيّ الكيان المحتل لترسيم حدود “إسرائيل التوراتيّة”.
• وضع حدّ للتمدّد الروسي – الصيني في المنطقة، إقتصاديّاً، وسياسيّاً، وأمنيّاً، وإستراتيجيّاً.
• إسقاط الجهود الراميّة إلى قيام عالم متعدّد الأقطاب، والحرص الشديد على “أميركا أولاً”، وعلى سياسة ونفوذ “القطب الواحد”.
ماذا بإمكان بوتين أن يفعل؟
إنه في عين العاصفة، فإما تكون أوكرانيا “جائزة الترضيّة” تعويضاً عن تراجع نفوذه في الإقليم، أو أن المواجهة الفعليّة لم تقع بعد!
وبإختصار.. لن يكون الشرق الأوسط الجديد حكراً على واشنطن وتل أبيب… وإن حصل، فسيكون مسرحاً لفوضى عارمة لا تحكمها ضوابط، ولا أنظمة قابلة للحياة والإستمرار…