| فيصل طالب | (*)
تمثّل سياسة الرواتب في القطاع العام، وبخاصة في ظل الظروف التي تتعاظم فيها التحديات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، إحدى الركائز الاستراتيجية التي يقوم عليها بنيان الخدمة العامة وإدارة الموارد البشرية، والتحفيز الفردي والمؤسسي، وترتبط عضوياً بتحقيق العدالة، واستقرار العمل الحكومي، وتنفيذه بكفاءة وفعالية، وضمان استمراريته على أسس متوازنة، ولا تتصل فقط بتوفير الشروط المؤاتية للإدارة لتحقيق الصالح العام، بل باعتبارها أيضاً أداة تعكس توجهات الدولة في تقدير العمل العام وتظهير صورته، وصون كرامة الموظف، وتوفير متطلبات عيشه الكريم الذي يليق بانتمائه الوظيفي ووجوده الإنساني. من هنا تبرز الحاجة الى مقاربة شمولية لسياسة الرواتب والأجور من منظور التفاعل بين الأبعاد والمعطيات الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية والإدارية والأخلاقية الذي يستجيب للتطلعات العامة نحو حوكمة رشيدة…
إن الزيادات التي طرأت على الأجور والرواتب والمعاشات خلال السنوات الماضية، تحت مسمّيات مختلفة، لمساعدة العاملين في الإدارة العامة ومتقاعديها على تحمّل أعباء الضائقة المالية الضاغطة، نتيجة التدني الكبير في القيمة الشرائية لرواتبهم، لم تكن بالتأكيد كافية لتوفير حياة كريمة لهؤلاء بحدّها الأدنى، فضلاً عن أنها لم تدخل في أساس الراتب، وأنها أدّت إلى تفاوت في النسب المئوية للزيادات بين الأسلاك وبين الفئات عن تلك التي كانت معتمدة في سلاسل الرواتب النافذة في العام 2017؛ الأمر الذي حال دون تحقيق مبدأ العدالة والمساواة في هذا النطاق. ويجب ألّا يفوتنا في هذا الإطار التأكيد على أن أيّة مقاربات لتعزيز الدخل، أو تقديم مساعدة لجهة دون أخرى في القطاع العام، ترتكز على الاستنساب، لا بدّ لها أن تنعكس سلباً على حسن سير العمل الإداري ومستوى إنتاجيته، وأن التجارب الحاصلة في هذا المجال أثبتت فشلها، فضلاً عن تعارضها مع أحكام قانونية نافذة، لأنها تتسبب بتمايز غير مبرّر بين الموظفين العموميين، واختلال في توازن الحقوق.
إن أبرز التحدّيات التي تواجهها الدولة في هذه المرحلة هي تحسين مستوى الأداء الإداري لرفع إنتاجية القطاع العام، وتقديم أفضل خدمة عامة، وزيادة إيرادات الدولة وانتظام عائداتها ليس فقط لتمويل الرواتب والأجور، إنما أيضاً لتحسين البنى التحتية، وتحقيق بيئة عمل مناسبة للعاملين في القطاع العام، وتوفير الظروف المؤاتية للاستثمار الداخلي والخارجي، وهو ما يسهم في التعافي الاقتصادي للبلاد، وينعكس إيجاباً على معالجة مسألة الأجور والرواتب التي لم تفقد فقط قسماً كبيراً من قيمتها، بل ناءت أيضاً بعبء التضخّم المتنامي على مدى السنوات المنصرمة.
وإلى حين إنجاز الإطار المرجعي للوظائف والكفايات، وما يتضمّن من توصيف وتصنيف للوظائف العامة كافة، فإنه لا بد من إعادة النظر في سلّم الرواتب بصورة مرحلية وعاجلة، لتوفير الظروف المعيشية للعاملين في القطاع العام، الحاليين والسابقين، بحدود مقبولة تتناسب طردياً مع القدرات المتنامية للمالية العامة للدولة؛ لأن إعادة النظر جذرياً في سلسلة الرواتب وأسس تحديدها وفق معايير علمية، يُراعى بموجبها مستوى الوظيفة ومهامها ومسؤولياتها وطبيعتها وظروفها والجهود التي تتطلبها والكفايات المطلوب توافرها لدى شاغلها، لن تتم إِلَّا في سياق هذا الإطار المرجعي للوظائف العامة؛ وهو مشروع جاد وطموح يعمل على إنجازه مجلس الخدمة المدنية حالياً، بحيث يسمح التوصيف الوظيفي بتوضيح الأدوار والمسؤوليات في الوظائف العامة، وتسهيل عمليات التوظيف بالاستناد إلى مرجع دقيق لاختيار المرشحين المناسبين للوظائف، والإسهام في تحديد الاحتياجات الوظيفية الحالية والمستقبلية، ومساعدة الرؤساء التسلسليين على توجيه الموظفين ومساءلتهم، بناء على نظام دقيق للتقييم يقيس مستوى أدائهم، ويحدّد أوجه القصور أو الحاجة إلى التدريب، لتُوضع تبعاً لذلك ما يناسب من برامج تدريبية هادفة.
إن بناء سياسة أجور ورواتب رشيدة يتطلب مقاربة شاملة تنظر في هيكلية الوظيفة العامة، وتوازن بين القدرة المالية للدولة وحقوق العاملين الحاليين والمتقاعدين، وتعتمد على الشفافية والعدالة والمساءلة. من بين ذلك البحث في:
– مراجعة القوانين والمراسيم التي تحكم سياسة الرواتب والأجور، وتظهير التفاوت في سلاسل الرواتب بين الأسلاك الوظيفية، ودراسة الفروقات بين الوظائف المتشابهة، وإعادة النظر في الفجوات بين الرتب والدرجات والمواقع الوظيفية.
– بناء رؤية لسياسة الرواتب والأجور تقوم على بناء إدارة عامة منتجة وفعالة تستقطب الكفاءات، وتحدّ من تسرّبها، وتحفّز الأداء، وتعزّز ثقافة الإنتاج والمساءلة، وتلتزم بمبدأ الاستدامة التنموية.
– وضع أهداف استراتيجية ترمي إلى تحديد الراتب المناسب للموظف العام، بناء على التوصيف والتصنيف الوظيفييّن ، في نطاق الإطار المرجعي للوظائف العامة.
– المواءمة مع أهداف الإصلاح الإداري في رفع كفاءة الموارد البشرية، وترشيد الإنفاق، وتحسين جودة الخدمات العامة.
– تقييم العبء المالي للرواتب على خزينة الدولة، ودراسة أثر تقلبات العملة والتضخم على الرواتب، والمواءمة بين مقتضيات الإنصاف وإمكانات الخزينة العامة.
– ربط المكافآت والترقيات والترفيعات والتدرّج الوظيفي (تقديماً أو تأخيراً) بالأداء الفعلي ومستوى الكفايات المتوافرة، لا بالأقدمية فقط، من خلال التقييم الموضوعي الشفّاف، وبوساطة مؤشرات قياس فردية ومؤسسية واضحة، لأن غياب هذا الربط يؤدّي الى تراجع الحافزية، وتقدّم التوظيف غير المنتج.
– إلغاء الوظائف غير المبررة، واستحداث وظائف جديدة، ودمج بعض الإدارات المتشابهة وظيفياً، على قاعدة الاستخدام الرشيد للموارد البشرية.
إن أي إصلاح في سياسة الرواتب والأجور لا يؤتي ثماره إِلَّا في إطار هذه المقاربة الشاملة لهيكلة الوظيفة العامة، التي لا تكتمل فصولها من دون اعتبار حقوق المتقاعدين في هذا السياق تعبيراً حيّاً عن الالتزام بمبادئ العدالة والاستدامة الاجتماعية، واعترافاً بفضل هؤلاء الذين أفنوا جلّ أعمارهم في الوظيفة العامة، وإشارةً إلى من لا يزالون في الخدمة الفعلية بأنّ من يخلص في أدائه لن يلقى الجحود والنكران، وإقراراً بأن جزاء العطاء لا ينتهي بانتهاء الوظيفة، بل يبقى محفوراً في ذاكرة الوطن، وتجسّده سياسة رشيدة لا تفرّط بحق، ولا تغفل عن فضل، بل تبقى ضامنة لإدارة عامة أكثر إنتاجاً وإنصافًا ووفاءً وخدمةً للمواطن اللبناني.
(*) المدير العام السابق لوزارة الثقافة














