| جورج علم |
لا يزال تاريخ 7 تشرين الأول 2023 ماثلاً، لم يطوه الزمن. إنه “طوفان الأقصى” في أدبيات القضيّة الفلسطينيّة، فيما هو عنوان “الشرق الأوسط الجديد” في أدبيات الكيان الإسرائيلي التوسعي.
من غزّة، إلى لبنان، إلى اليمن، إلى “تفكيك وحدة الساحات”، إلى المحور المقاوم فوق جغرافيا متصدّعة، بلغ المدّ التدميري ذروة العمق الجغرافي ـ التاريخي لهذا الشرق الأوسط.
لم يعد مهمّاً معرفة الشعارات التي إتخذتها الولايات المتحدة و”إسرائيل” كذريعة لمدّ “البراثن الجارحة” ضدّ إيران، بقدر ما أصبح مهمّا معرفة الأهداف والأبعاد. أو بكلام أكثر وضوحاً، معرفة مواصفات اليوم التالي للشرق الأوسط، عندما تحطّ الحرب أوزارها.
عرف العالم متى بدأ “طوفان الأقصى”، وكيف.. لكنه لا يعرف كيف سينتهي، وأين، في ظلّ العدوان الأميركي المموّه بغطرسة إسرائيليّة.
ذهب الرئيس دونالد ترامب منفرداً في نزهة على ضفاف الملفات الساخنة في المنطقة، قبيل زيارته “الدسمة” إلى الخليج، دون أن يصطحب معه بنيامين نتنياهو. وراج حديث عن خلافات حول المقاربات، خصوصاً عند إتخاذه القرار المفاجىء ببدء المفاوضات الأميركيّة ـ الإيرانيّة، وتوصله إلى إتفاق مع “الحوثي” حول الملاحة في البحر الأحمر، وإستقباله الرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض، ورفع العقوبات عن سوريا، ودعوته إلى وقف المذبحة في غزّة، إلى جانب خطوات أخرى أثارت الكثير من علامات الإستفهام حول علاقة الرجلين، ومصير “الزواج” الأميركي ـ الإسرائيلي!
وقبيل الجولة الخامسة من المفاوضات مع طهران، إتصل ترامب برئيس الوزراء الإسرائيلي، وطلب منه ـ وفق الإحاطة الإعلاميّة الصادرة عن البيت الأبيض ـ وقف إطلاق النار في غزة، وعدم ضرب المفاعلات النوويّة الإيرانيّة.
وتكرّر الإتصال قبيل موعد الجولة السادسة، وإستمرّ 40 دقيقة، وتكرّرت المطالب عينها، إلاّ أن شيئاً ما كان يدبّر في الخفاء، وظهرت مؤشرات لافتة، منها:
• إقدام الإدارة الأميركيّة على سحب العديد من طواقمها الدبلوماسيّة من عواصم دول المنطقة، وخصوصاً من بغداد.
• إقدام نتنياهو ـ بعيد تلقيه الإتصال ـ على عقد اجتماع أمني مغلق مع أركان حربه.
• إعتماد مجلس محافظي الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة ـ يوم الخميس، وقبيل ساعات من بدء الهجوم ـ قراراً يدين إيران بـ”عدم الإمتثال لإلتزاماتها” بموجب معاهدة حظر الإنتشار النووي.
أعدّت النص واشنطن بالتعاون مع لندن، وباريس، وبرلين، وأيدته 19 دولة من أصل 35، فيما عارضته روسيا، والصين، وبوركينا فاسو.
ومع بدء العدوان على إيران، أكّد ترامب أنه كان على علم مسبق، فيما أكدّ وزير خارجيته ماركو روبيو أن بلاده لم تشارك، وبالتالي يتعيّن على إيران عدم إستهداف المصالح الأميركيّة.
لا يجوز لدولة بحجم الولايات المتحدة إعتماد سياسة ملتبسة متذبذبة، تجاه قضايا مصيريّة. لا يجوز لها إعتماد دبلوماسيّة بقناعين، ووجهين، وخطابين، وقرارين: مع الحرب، وضدها! لا يجوز لرئيس بحجم دونالد ترامب، وسطوته، أن يقلّد النعامة، ويدفن رأسه بمستوعب من القرارات المربكة، المتهوّرة، المتصدّعة.
يقول إنه لم يشارك في الهجوم. لكن “ملائكته” كانت حاضرة، وسلاحه، وحاملات طائراته، ومخابراته، وتقنياته العالية المتطوّرة، وتنسيقه المستمر مع اليمين الإسرائيلي المتطرّف في كل خطوّة.
إن التصويب من جهة، والتلطّي وراء مموّهات من جهة أخرى، فضح الكثير من المآرب:
أولاً ـ نقل الأنظار عن غزّة، وتسليطها على الواقع الجديد ما بين “إسرائيل” وإيران، والمستجدات المتناسلة…
ثانياً ـ نقل الصراع من الملف الفلسطيني إلى الملف النووي. كانت البديات مع القضيّة الفلسطينيّة، و”طوفان الأقصى”، وأصبحت الآن في غير مكان من الإهتمام في زحمة الطوفان الإسرائيلي الأميركي في المنطقة.
ثالثاً ـ ألا يجوز السؤال حول التوقيت؟
لماذا بدأ العدوان الإسرائيلي ـ الأميركي عشيّة إنتقال الوفود الدوليّة إلى قاعة الأمم المتحدة في نيويورك، بدعوة من المملكة العربيّة السعوديّة وفرنسا، في مؤتمر جرى التحضير له مسبقا لإطلاق مسار “حل الدولتين”، والمطالبة بحق قيام دولة فلسطينيّة ذات سيادة؟ ولماذا قبل ترامب بتهميش دعوته “إسرائيل” إلى الوقف الفوري لإطلاق النار في غزّة، والإمتناع عن إدخال المساعدات الإنسانيّة إلى القطاع؟
رابعاً ـ لماذا لا يُكشف النقاب عن أن الهدف من الدعم الأميركي للعدوان الإسرائيلي لا يقتصر على تعطيل البرنامج النووي، بل الإقتصاص من إيران لعدم رضوخها للضغوط الهادفة إلى فكّ تحالفها مع كلّ من روسيا، والصين، وتعطيل الإتفاقيات الإستراتيجيّة المبرمة مع كل من موسكو وبكين، خصوصاً ما يتعلق منها بالتعاون الأمني ـ العسكري، وبعقود النفط المبرمة مع بكين، حيث يعتمد بعض الإقتصاد الصيني على النفط الإيراني!
قد تنتهي المواجهات غداً، أو بعده، بصفقات وتسويات، أو قد تطول… وفي مطلق الأحوال، تبقى الولايات المتحدة ـ لا “إسرائيل” ـ هي الخصم والحكم، لأن ما يجري في الشرق الأوسط، إنما يجري وفق إعدادها، وتخطيطها، وسلاحها، سواء كان مباشرة أو بواسطة “الوكيل” الإسرائيلي. وليس صحيحاً أن بنيامين نتنياهو وفريق عمله المتشدّد هو من يصنع الشرق الأوسط الجديد، بل الهيمنة الأميركيّة الهادفة إلى تحقيق هدفين استراتيجيين:
– السيطرة على الثروات والخيرات، والمواقع، والممرات الإستراتيجيّة.
– منع تحويل المنطقة إلى جسر عبور روسي ـ صيني، وساحة تلاقي مصالح بين إمبرطوريات ثلاث: الروسيّة، والفارسيّة، والصينيّة…
يريد ترامب تتويجه إمبرطوراً على الشرق الأوسط الجديد، فهل يسعف الحال؟














