| خلود شحادة |
كان السؤال في المرحلة التي تشكلت الحكومة اللبنانية فيها هو: هل رئيس الحكومة نواف سلام يعمل بشكل حقيقي لإعادة بناء الدولة من داخلها، أم مجرّد استجابة لحسابات خارجية يريد أصحابها ترتيب الأوراق في لبنان لخدمة مصالحهم أولًا؟
هذا السؤال لم يأتِ من فراغ، بل بعد سلسلة تصرفات خرجت عن رئيس يفترض أنه لكل اللبنانيين ويقف على مسافة واحدة من الجميع، ولو أنه استدرك “خرقه” للسلم الأهلي والوحدة الوطنية بزيارة غير بعيدة لعين التينة، حيث التقى برئيس مجلس النواب نبيه بري، معلناً من منبره “تمسكه بقرار لبنان الموحد”.
ففي بلاد تعلّمت أن تمشي على حدّ السكين، حيث كل خطوة تحمل في طيّاتها نذير انفجارٍ أو بصيصَ أمل، كان رئيس الحكومة نواف سلام قد أطلّ بخطاب يلوّح فيه بـ”السيادة الكاملة” ويُلمّح إلى عقد سلام مع الكيان الصهيوني، وكأنّه يغضّ الطرف عن جمر الثأر المتقد تحت رماد الحروب الطويلة مع العدو الإسرائيلي.
سلام، الآتي من دهاليز الدبلوماسية الدولية البعيدة عن السياسة اللبنانية، رفع راية القانون ويغلّفها بعبارات الحداثة، لكنه وضع إصبعه ـ عن قصدٍ أو عن غفلة ـ على جرحٍ لم يندمل، في وطنٍ لم ينهض بعد من تحت ركام الحرب الشعواء التي شنها العدو الإسرائيلي، وما زال الكثير من أبنائه أشلاء مفقودة الأثر.
رغم التبريرات عبر البيانات والتصاريح، إلا أنه بدا أن خطاب نواف سلام الأخير، الذي تضمّن إشارات واضحة إلى ضرورة “استعادة السيادة” عبر نزع سلاح “حزب الله”، وضمان “الأمن والأمان” للبنان عبر عقد اتفاق سلام مع “إسرائيل”، لم يكن مجرد تصريح عابر في زمن الأزمات. فهو يأتي في سياق متداخل بين ضغوط دولية متزايدة، ودعوات محلية لتطبيق قرارات الأمم المتحدة التي طالما بقيت حبراً على ورق.
لكن بين الدعوة النظريّة إلى السيادة الكاملة، وبين الواقع المليء بالتعقيدات، ثمة أسئلة كبيرة تتعلق بالمدى الذي يمكن للبنان أن يتحمّل فيه مواجهة داخلية بين مكوّناته، في ظل الواقع الأمني المهزوز بفعل الغارات الإسرائيلية التي تخرق اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان و”إسرائيل”، والذي كان الالتزام به من طرف واحد.
نواف سلام، لم يعِ خطورة المرحلة وحساسيتها، على عكس رئيس الجمهورية جوزاف عون الذي يدرك تمامًا أن المرحلة الدقيقة تحتاج إلى الكثير من التروّي في مقاربة أي ملف، وتحديدًا ملف نزع سلاح “حزب الله”.
ففي الوقت الذي تتطلّب فيه الحكمة تجنّب “صبّ الزيت” على نار الاحتقان الطائفي، وهذا ما مارسه رئيس الجمهورية بوعي تام لهواجس “الثنائي الشيعي”، محاولاً تبريد الأجواء بالوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف السياسية، حلّق نواف سلام بعيدًا جدًا، غير آبهٍ بواقع لبناني قد يشتعل في أي لحظة، خصوصًا في ظلّ شعور الإقصاء والإلغاء الذي تعيشه البيئة الشيعية، والتي لم ينشف بعد دم شهدائها، ليأتي رئيس الحكومة متفوّهًا بخطابٍ عن السلام مع العدو الإسرائيلي، وكأنّه يتجاهل التوازنات الداخلية ويقفز فوق جروحٍ لم تلتئم بعد.
استدرك نواف سلام موقفه لاحقًا، عازيًا ما قاله إلى “مبادرة السلام العربية”، وكأنّه يقدّم تبريرًا نظريًا يمكن تسويقه لدى الرأي العام. لكن هل غاب عن باله، أو تعمّد تجاهل خطابات قادة العدو الصهيوني الرافضة بشكلٍ كليّ لفكرة “حل الدولتين” أصلًا؟ أليس من البديهي أن المبادرات العربية ظلّت حبراً على ورق أمام تعنّت الاحتلال الإسرائيلي، وأن العدو نفسه يرفض الاعتراف بالحقوق الفلسطينية ولا يبدي أي استعداد لتسوية عادلة؟
غاب عن سلام نقض وانتقاد أي خرق صهيوني للأراضي اللبنانية، إلا أنه كان حريصاً على التسويق لـ “مبادرة السلام العربية” في سياق كهذا، حتى بدا وكأنه محاولة لتجميل خطاب، أراد من خلاله طمأنة المجتمع الدولي أكثر مما أراد مخاطبة الداخل اللبناني الذي تتقاذفه أزمات الأمن والسيادة والاقتصاد.
رفع نواف سلام السقف كثيرًا، متحدثًا بلسان حزب واحد بدل أن ينطق بلسان الدولة حصراً، متجاوزًا بذلك مقتضيات التوازن الوطني، وهو ما خلق ردود فعل متباينة في الساحة السياسية. في المقابل، بدا رئيس الجمهورية جوزاف عون أكثر حرصًا على السلم الأهلي، مدركًا أن المرحلة تستدعي خطابًا جامعًا وحذرًا، لا خطابًا إقصائيًا قد يشعل الفتيل في لحظة لا يحتملها لبنان.
في المقابل، جاء رد رئيس مجلس النواب نبيه بري صادمًا في بساطته الحادة، حيث قال ببساطة “إذا سخّن منسخّن”، ليس تهديدًا بقدر ما هو تحذير لنواف سلام من مغبة المضي بهذه النبرة مع الشارع اللبناني الذي لا يتقبل، بكل أطيافه، لغة الأمر بتاتًا.
كما وصلت ذبذبات واشعارات خطر لسلام من بعض المقربين والرؤساء السابقين، تتضمن نصيحة بعدم خوض أي مواجهة مع بري على قاعدة “يلي بجرّب مجرّب…”، خصوصاً وأن الحكومة الحالية لا تملك سوى غطاء سياسياً ضيقاً جدًا من حزب “القوات اللبنانية”، ولا تمتلك أي غطاء شعبي داخلي، وتفتقر للدعم الدولي أو العربي، وهذا ما كشفه غياب لبنان عن أجندة الاتفاق القطري ـ السعودي الخاص بسوريا.














