| ناديا الحلاق |
في بلد يتقلّب على جمر الأزمات الاقتصادية والمعيشية، يُفاجَأ المواطن اللبناني يومياً بممارسات تجارية تُمعن في استغلال وضعه المتردّي، لعل أبرزها وأكثرها استفزازاً ما يُعرف بظاهرة “الفراطة”.
بعد أن أصبحت الأزمات جزءًا من يومياته، بات عليه أيضاً أن يتعايش مع أساليب جديدة تُجيّر الأزمة لمصلحة التاجر وتُفاقم خسارته كزبون. يدخل المواطن إلى متجر أو سوبر ماركت أو حتى محل ألبسة في أحد المولات، يدفع ثمن ما اشتراه، وعندما يحين وقت استرداد ما تبقى له من المال، يتلقى الجواب ذاته: “ما في فراطة”.
هذا المشهد تكرّر إلى أن أصبح روتيناً يومياً مألوفًا، تُقتطع فيه مبالغ تتراوح بين عشرين ومئة ألف ليرة، تحت ذريعة غياب الفراطة. وفي أحيانٍ كثيرة، يتم تعويض النقص بحبة حلوى أو قطعة علكة، وكأن المواطن مُجبر على التفاوض على أبسط حقوقه المالية.
سارة، طالبة جامعية، تروي تجربتها بالقول: اشتريت “تيشيرت” من أحد المحلات المعروفة بثمن مليون و700 ألف ليرة. دفعت 20$، وتوقعت أن أسترد المئة ألف، لكن الموظف قال لي بكل بساطة: “ما في فراطة”.
حاولت أن أشرح له أن المبلغ ليس بسيطاً، لكنه أصرّ أن لا حيلة له أو عليّ الانتظار ريثما يحصل على الفراطة من زبون آخر.
تتابع سارة: “في البداية شعرت بالإحراج، لكن بعدها بدأت ألاحظ أن هذا التصرّف يتكرر في أكثر من محل، وبات واضحاً أن المسألة ليست مجرد صدفة أو عجز فعلي عن توفير الفراطة”.
وما يزيد الاستغراب أن هذه الظاهرة لم تعد محصورة بالدكاكين أو المحلات الصغيرة، بل امتدّت إلى المولات ومحلات الألبسة الراقية، التي يُفترض فيها أن تلتزم بأعلى معايير الدقة والنظام. وقد أصبح التذرّع بنقص الفراطة ذريعة مريحة للكثير من التجار، حتى في أماكن تتعامل بمبالغ كبيرة.
حسن، موظف محاسبة في أحد المتاجر الكبرى، كشف من جهته بعداً خطيراً للمسألة ويقول: “ما يتم جمعه يومياً من هذه الفروقات الصغيرة قد يبدو تافهًا، لكنه يتراكم. في بعض الايام، يمكن أن يصل المجموع إلى ما يعادل 3 أو 4 ملايين ليرة فقط من “الفراطة” غير المعادة.
قانونيًا، هذا التصرف غير مشروع، وأوضح مصدر قانوني لموقع “الجريدة” أن “ما يجري يمكن تصنيفه كاستيفاء مال من دون وجه حق”.
وأضاف: “في القانون التجاري، البائع ملزم برد الباقي للزبون بالكامل. وإن تعذر عليه ذلك، يجب أن يعلم الزبون مسبقاً أو يؤمّن وسيلة بديلة حقيقية وعادلة، لا أن يفرض حلاً مجحفًا. ما يحدث اليوم يعكس ليس فقط غياب التنظيم، بل يظهر بوضوح غياب الرقابة والمحاسبة”.
وتابع المصدر: “المسؤولية هنا لا تقع على التاجر وحده. فوزارة الاقتصاد والتجارة، الغائبة بشكل شبه تام عن تفاصيل الحياة اليومية للمواطن، لا تقوم بدورها الرقابي كما يجب. أما نقابات أصحاب المحلات، فهي إما صامتة أو متواطئة، ما يجعل المواطن الحلقة الأضعف، يجبر على القبول أو يعترض من دون جدوى”.
وتتفاقم المشكلة مع غياب البدائل الواقعية. فلو توفر الدفع الإلكتروني بشكل فعال، أو طُرحت أوراق نقدية بفئات صغيرة في السوق، لأمكن تجاوز هذه الأزمة. لكن بدلاً من الحلول، تُستخدم الأزمة كغطاء لتبرير تجاوزات مالية متكررة من مؤسسات تجارية، صغيرة كانت أو كبرى.
في المحصّلة، لا يمكن اعتبار هذه الظاهرة أمراً عابراً أو تفصيلاً بسيطاً. إنها سرقة مقنّنة، تتكرر أمام الجميع، بلا أي رادع.
بين عبارة “ما في فراطة” و”خود بونبون”، تضيع حقوق الناس في تفاصيل يومهم، وتتحوّل الليرة المهدورة إلى مرآة لانهيار اقتصادي وأخلاقي شامل. ويبقى السؤال المطروح: إلى متى سيبقى المواطن هو الحلقة الأضعف؟ ومتى تتحرك الدولة، ولو لحماية ألف ليرة واحدة من مال الناس؟.














