| علاء حسن |
منذ أن تولى الرئيس الأميركي دونالد ترامب سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، بدأت موازين الأمور تختل عالمياً. ظن البعض أن حرباً عالمية آتية سيشعلها جنون ترامب الذي تلاعب، خلال أقل من مئة يوم من توليه الرئاسة، بأكثر الأشياء التي تحافظ على ثبات واستقرار هذا العالم.
لكن، ما إن توالت ردود الأفعال حتى هدأت ثورة الرجل، وانقض على الدول من بوابة التفاهمات، الأمر الذي قرأه البعض على أنه تهدئة في الملفات الساخنة على درجة حرارة تناسب الكاوبوي نفسه، مع الاحتفاظ على التحريك المستمر حتى تنضح الطبخة كما كان يشتهيها منذ البداية. وما الفوضى التي أحدثها سوى عملية رمي الزهر على الطاولة من أجل تحديد الاتجاهات والأولويات التي سوف يبدأ منها مشواره الرئاسي، وهم يراهنون في ذلك على ترامب التاجر لا ترامب المحارب.
وفي هذا السياق، انتهى التلويح الأميركي بشن حرب على إيران بالبدء بالمفاوضات النووية التي من المؤكد ستترك آثارها على مجمل المنطقة ودولها، وهو ما يجعل جمهور المشاهدين يقف مشدوهاً أمام شاشات الأخبار الواردة عن جولات المفاوضات المستمرة لمعرفة السياقات التي ستشكل وجه المنطقة اللاحق، خصوصاً بعد عام ونصف من “طوفان الأقصى”، وما تلاه من حروب وسقوط وصعود، بقي البيدق الإيراني أساسياً فيها، كي تتضح معالم المنطقة فيما لو بقي على قوته أو تهاوى.
التصريحات الصادرة عن الأطراف المفاوضة والوسيطة توحي ـ لغاية الآن ـ بجدية المتفاوضين نحو تحقيق ولو “اتفاق إطار” يساعد على ربط النزاع، ومحاولة إيجاد طرق بديلة لحلها من دون الوصول إلى حافة المواجهة العسكرية. لكن مع بدء التفاوض على مستوى الخبراء، أصبحت الخشية من عملية التباطؤ المؤدية إلى الاختلافات وفتح الباب على المتدخلين، أكثر جدية، خصوصاً أن “الشيطان يكمن في التفاصيل”.
وهذه الخشية تصبح أكثر واقعية إذا ما نظرنا إلى ساحات النزاع الأميركي ـ الإيراني على أنها ساحات تصفية حساب، يمكن أن تتحول إلى ميادين لنقل الرسائل الساخنة، فضلاً عن تغيير دراماتيكي في “مكان ما” يغير من حسابات الدول الداعمة لهذه المفاوضات، كما لو اندلعت الحرب بين الجارتين في شبه القارة الهندية، فعندها من غير المعلوم أن يبقى لهذه المفاوضات جدوى فيما لو تغير الواقع الجيوسياسي في منطقتنا، خصوصاً إذا ما تنبهنا إلى أن الحدود بين إيران وباكستان تمتد إلى أكثر من تسعمئة كيلومتر.
بالعودة إلى “الشيطان” الكامن في التفاصيل، والذي سوف يفتح الباب للمتدخلين بالولوج إلى المفاوضات، حدث انفجار كبير في أكبر مرافئ إيران الجنوبية، في مشهد يعيدنا بالذاكرة إلى انفجار مرفأ بيروت عام 2020. وهذا الانفجار يضع إيران تحديداً أمام واقع معقد يحمل سيناريوهات غير مرغوبة بالنسبة لها:
ـ السيناريو الأول: إذا ما اعتبرت إيران أن المستفيد من التفجير هو الكيان الصهيوني بشخص نتنياهو المتضرر من التقارب الإيراني ـ الأميركي، وأن الهدف من هذه العملية هو التشويش على المفاوضات الجارية، تصبح أمام خيارين:
1 ـ تفعيل عملية “الوعد الصادق 3″، وبالتالي تطيير المفاوضات مرحلياً، من دون إمكانية العودة إليها قبل تغيير جوهري في قواعد الاشتباك. وهذا السيناريو سيأخذ المنطقة إلى جولة قتالية عنيفة لن تستثني طرفاً وقد تمتد إلى أكثر من ذلك.
2 ـ الوعد بالانتقام من دون تنفيذه، الأمر الذي سيضعف موقفها أمام الغطرسة الأميركية، وتصبح بذلك الطلبات الأميركية أكثر حدة وأوسع نطاقاً، بحيث لن تقبل بها إيران ونعود معها إلى المربع الأول.
ـ السيناريو الثاني: البحث عن متضرر آخر حاول التلاعب بالمفاوضات من خلال هذه العملية، لخوفه على مستقبله، فمشهد النفوذ الإيراني على دول المنطقة في حقبة السبعينيات لا يزال ماثلاً أمام العديد من الدول المجاورة أو المتشاطئة مع إيران، الذين استفادو كثيراً من العداء بين إيران والولايات المتحدة، وتتنابهم اليوم مشاعر سلبية من هذا التقارب فيما لو حصل والذي سيحولهم إلى دول غير فاعلة في المنطقة.
لكن اعتماد هذا السيناريو من قبل إيران سيزعزع مكانتها في المنطقة. فإما أن تقوم بتأديب الطرف المنفّذ، وسيعد ذلك رسالة سلبية للطرف الأميركي الذي قد يسمح بهامش تَحرُك لـ”إسرائيل” من أجل الرد في الداخل الإيراني، فضلاً عن تكتل عربي ضدها، وهو ما سيكرر السيناريو الأول. وإما أن ترد بنفس الطريقة، عبر عملية “من دون بصمة”، الأمر الذي سيجعل إيران خارج السرب العربي واللاعب الذي يزعزع أمن المنطقة، وستكون إيران عندها أمام تأليب إقليمي لن يفيدها التوافق مع الولايات المتحدة بشيء.
ـ السيناريو الثالث مرتبط بالتجاذبات الداخلية الإيرانية، أو كما يسميه الإيرانيون “أعداء الداخل”. لا شك أن هذه المفاوضات ستعكس نتائجها على اتجاه إيران المستقبلي، وأياً تكن هذه النتائج فإنها ستضر بمصالح فئة من الفئات، سياسية كانت أم اقتصادية أو حتى عسكرية، وقد لا يكون لفئة من هذه الفئات مصلحة في إتمام صفقة المفاوضات بصيغتها الحالية، أو قد يكون الخلاف أعمق ليصل إلى خلاف عقائدي مرتبط بأصل الدولة وهويتها وما ستغدو عليه في المستقبل.
كل هذه العوامل كفيلة بتحويل تبادل الرسائل الداخلية إلى رسائل نارية، بصرف النظر عن اليد المنفذة، داخلية كانت أو خارجية.
وفي هذا السيناريو أيضاً ستكون إيران الدولة أمام معضلة حقيقية، فاعترافها بالتنفيذ الداخلي سيقوض من بسط سيطرتها على البلاد ويفتح الباب أمام عمليات أخرى تساهم في إضعاف سيطرة الدولة، مما سيضر بالمفاوضات لكون الأميركي سيتريث حتى يشاهد نتيجة هذا الصراع ويبني موقفاً على مقاس ما ستؤول إليه الأمور. فضلاً عن أن فتح باب التخوين ستكون له نتائج كارثية في دولة تواجه محيطاً منافساً وواقعاً دولياً غير مرحب، إن لم نقل معادياً.
في النتيجة أصبحت إيران أمام واقع معقّد، فإما تثبت للأميركي أن الكيان تجاوز الخطوط المرسومة أميركياً وتحرجه، وهو مستبعد لأن نتنياهو متحالف مع ترامب ضد ما يسمى بـ”الدولة العميقة” في الكيان وفي الولايات المتحدة. وعليه، من الصعوبة أن تتمكن إيران من إثبات هذا الأمر. ومن جهة أخرى، لن تتمكن من اتهام إحدى دول المنطقة بهذه العملية، بالإضافة إلى أن اتهام الفصائل الإرهابية المناوئة لإيران لن يحل القضية، لكونها لا تعمل دون إيعاز من أطراف إقليمية أو دولية.
إلى ذلك تعلم إيران أن دولاً مثل روسيا والصين تقفان على الحياد، فيما تحملان ملفاتهما المعدة أميركياً وتنتظران النتائج لتعرفا كيف سيكون التعامل مع ملفاتها من قبل ترامب. وعليه، لا تعوّل إيران على الحلفاء فيما لو أرادت قلب الطاولة.
لذلك، يبدو أن جريمة اليوم من “سنخية” الجرائم التي لن يتم التوصل أو الإعلان عن الجهة التي تقف وراءها. وأفضل الحلول الماثلة أمام إيران اليوم، هو الذهاب نحو سيناريو “الإهمال” أو “الخطأ غير المقصود”، وتكون بذلك قد أفشلت الهدف من العملية ومن وراءها من دون خسارة نقاط لصالح الأميركي كي يستفيد منها في الجولة القادمة.