| فرح سليمان |
لم يعد التراشق الكلامي في السياسة اللبنانية مجرد تعبير عن اختلاف في الرؤيا أو مقاربات متباينة للأزمة الوطنية، بل بات يحمل دلالات أكثر خطورة على مستقبل الاستقرار الداخلي، خصوصًا عندما تأخذ التصريحات طابعًا متطرّفًا يتجاوز حدود النقد السياسي المشروع إلى استهداف مباشر، وتبنّي مواقف تُكرّس الانقسام وتبرّر التدخلات الخارجية.
تصريحات تتجاوز الخطوط الحمراء
أحدثت تصريحات وزير الخارجية اللبناني يوسف رجي، ضجة واسعة بعد اتهامه “حزب الله” بالتنصل من التزاماته في اتفاق وقف إطلاق النار، واعتباره أن استمرار سلاح المقاومة يقدّم ذريعة لجيش الاحتلال للبقاء جنوبًا.
هذه التصريحات، التي أثارت ردود فعل غاضبة لدى “حزب الله”، ليست الأولى من نوعها لرجي، إذ يُعرف بتاريخه السياسي المرتبط بحزب “القوات اللبنانية” ودوره كمقاتل إبان الحرب الأهلية، وهو ما يطرح تساؤلات حول الخلفيات التي تتحكم بمواقفه.
رجي لا يتردد في استحضار الماضي العسكري لحزبه كـ”مدرسة مقاومة” يُفاخر بها، وهي محاولة لتبرير مواقفه المتشددة ضد “حزب الله”، لكنها تُعيد إلى الواجهة ذاكرة الحرب الأهلية وأحداثًا ينبغي تجاوزها لا إحياؤها بخطاب قد يُعيد إنتاج الانقسامات الطائفية والسياسية.
ولم يتأخر النائب غسان حاصباني في تصعيد الخطاب أيضًا، حين اعتبر أن إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان يعزز ذريعة الاحتلال للبقاء والتوسع، متهمًا “حزب الله” بأنه “أكبر خادم لإسرائيل”، لأن سلاحه يُستخدم كذريعة لعرقلة “الدبلوماسية” اللبنانية وإضعاف الدولة.
كما دعا حاصباني الجيش اللبناني إلى نزع سلاح “حزب الله” بالقوة أو بالتراضي، مهدداً بتسليم المهمة لـ”اسرائيل” أو سوريا.
تصريحاته تكشف عن محاولة لتعزيز فكرة أن المقاومة المسلحة باتت عبئًا على لبنان، بدلًا من كونها قوة دفاعية، وهو خطاب يلقى دعمًا لدى شريحة من القوى السياسية المعارضة لـ”حزب الله”، لكنه يتجاهل في الوقت نفسه التعقيدات الإقليمية التي تضع لبنان في قلب الصراع .
ربما كانت تصريحات رئيس جهاز الإعلام والتواصل في القوات اللبنانية، شارل جبور، الأكثر تطرفًا، حين قال: “كل ما يقطع شريان التنفس الممتد من طهران إلى بيروت، أنا معه، بغض النظر عن المجازر أو أي شيء آخر”.
يُظهر هذا التصريح مستوى غير مسبوق من الخطاب السياسي الذي يتجاوز حدود الصراع الداخلي إلى تبرير المجازر والجرائم بحق المدنيين إذا كانت تخدم الهدف المتمثل بإضعاف “حزب الله.”
مثل هذه المواقف تعكس أزمة أعمق في الخطاب السياسي اللبناني، الذي بات يُدار وفق منطق “الغاية تبرر الوسيلة”، حتى لو كانت هذه الوسيلة تتناقض مع المبادئ الإنسانية والقانون الدولي.
لن يؤدي التصعيد اللفظي بين الأطراف اللبنانية إلا إلى مزيد من التدهور في العلاقات السياسية، وقد يعزز خطر الانزلاق إلى مواجهات فعلية، خصوصًا في ظل التدخلات الخارجية التي تحاول استثمار هذا الانقسام لمصالحها.
فالتصريحات التي تُبرّر الاحتلال أو تدعو إلى نزع سلاح المقاومة بالقوة، تتعارض مع مفهوم السيادة الوطنية التي يعتزم بها هؤلاء، وتُضعف قدرة الدولة اللبنانية على إدارة أزماتها داخليًا من دون الارتهان بالخارج.
ما يثير القلق أن هذا الخطاب لا يقف عند حدود التباين في الرؤى، بل يتخطاها إلى تحريض مباشر يحمل في طيّاته بوادر الانقسام العميق، وكأن بعض الأطراف السياسية لم تتعلم شيئًا من دروس الحرب الأهلية ومن مسارات التصعيد السابقة التي دفعت البلاد نحو هاوية الانهيار.
عندما يصل الخطاب السياسي إلى حدّ تبرير المجازر والجرائم بحق المدنيين بدافع الخصومة السياسية، يصبح السؤال مُلحًا حول أي أفق ينتظر لبنان في ظل هذا الانحدار السياسي؟