الرسالة “المجنّحة”.. والخيارات “المروّسة”!

| جورج علم |

وصلت “الرسالة المجنّحة” بعد طول إنتظار. إنها في غرفة العناية الفائقة. تفكّك القيادة الإيرانيّة رموزها. تدرسها حرفاً حرفاً للإلمام بالمعلن والمستتر، وحقيقة ما يريده الرئيس الأميركي دونالد ترامب حاضراً ومستقبلاً.

كان الأخير واضحاً، يريد تغيير المسار، إما عن طريق الحوار، أو المواجهة. الكلام عنده يحمل الكثير من الشطط، ولكن يحمل الكثير من الوضوح أيضاً.

تحدّث عن الرسالة، قال إنها مجرّد “بلاغ”، للتبليغ، ووصفها بـ”المجنّحة”، لأن الهدف منها نقل الواقع في إيران من مكان إلى آخر.

قطاره يشقّ تضاريس المنطقة، غير عابىء بالموانع، والروادع، والمستحيلات. عنده إستراتيجيّة “الحزام والطريق”، والمختلفة كليّاً عن تلك التي يعتمدها الزعيم الصيني شي جين بينغ. إنها النقيض تماماً، ولها محطاتها المفصليّة في الشرق الأوسط. وصل قطاره إلى أبواب طهران، ما العمل؟ أرفق رسالته “المجنحة” بتصعيد غير مسبوق في المحور، عودة المجازر الإسرائيليّة إلى غزّة، وقصف القلاع الحوثيّة في اليمن، وإطلاق يد بنيامين نتنياهو في سوريا.

ما يجري على الجبهة الشرقيّة في البقاع ليس بطفرة عابرة، ولا بمناوشات “أهل البيت” على اقتسام جبنة التهريب. إنه مظهر من مظاهر التحدّي الكبير الذي يواجه الكيان الصغير. لبنان على مرمى من أصوليتين: صهيونيّة وتكفيريّة. ووسط كماشة ضاغطة بفكين: الأول في الجنوب، والثاني في البقاع. ولم يعد الجيش بعداده وعديده منصرفاً بزخم وفاعليّة لتنفيذ وقف إطلاق النار، ونشر السيادة الوطنيّة، وتطبيق القرار 1701، بل بات عليه أن يُخمد النار المشتعلة المفتعلة على الحدود اللبنانية ـ السوريّة، لمنع الاحتكاك المذهبي، وانتقال الشرارة إلى الداخل اللبناني.

وهنا يفيض منسوب الحيرة. هل أن ما يجري على الحدود الشرقيّة “أهليّة بمحليّة”، أم مخطط عن سابق تصوّر وتصميم، ووراؤه دول، وأجهزة، وخرائط، وأهداف، وجغرافيات…؟ وإذا كان الأميركي ضنيناً بصدقيته، ويريد فعلاً أن يتولّى الجيش اللبناني دوره الوطني في الجنوب، فلماذا بعثرة عديده، وتشتيت إمكاناته، وفتح جبهات كانت هادئة، ولا يعكر مزاجها أي فصيل؟

بالمقابل، يعاني المسار الدبلوماسي اللبناني من عقد نقص. وما يشاع، ويملأ الأسماع، ينبىء بضعف الإمكانيّة على مواجهة التحديات المصيريّة.

هناك إحتمالان: إما لدى المسؤولين ضمانات دوليّة موثوقة حول مستقبل لبنان. أو ليس هناك شيء من هذا البتة، ولبنان متروك وحده لمصيره، فيما تضغط الكمّاشة الأصوليّة عليه، بفكّيها من الجنوب، والبقاع، للقضاء على ما تبقى لديه من إمكانات صمود.

واضح أن لدى المسؤولين شيء من الضمانات، لكنّها أشبه بتطمينات، وليست من النوع الثابت المؤكد، بل من ذاك الذي يحتاج إلى حوارات وتفاهمات.

وواضح أن هناك خديعة لا بدّ من سبر غورها.

يعوّل المسؤولون اللبنانيون على الولايات المتحدة. حجّتهم أنها الوحيدة القادرة على ردع “إسرائيل”، وإلزامها حدّها، وإرغامها على تطبيق وقف إطلاق النار بحذافيره، ووضع حدّ لاعتداءاتها، وإخلاء جميع المواقع التي لا تزال تحتلها في الجنوب. وحجتهم أن الأميركي هو من هندس إتفاق وقف إطلاق النار، ومن تولّى التفاوض مع بيروت وتل أبيب، وهو من تعهّد بتطبيقه، وهو من رعى المفاوضات غير المباشرة بين لبنان و”إسرائيل”، وهو من أعلن أن المفاوضات هذه قد حققت ذات يوم أهدافها، بدليل أنها أسفرت عن إتفاق حول ترسيم الحدود البحريّة في الجنوب.

اليوم غيره بالأمس. هناك جنرال أميركي مهمته مساعدة الأطراف المعنيّة على وضع قرار وقف إطلاق النار موضع التنفيذ، لكن أحداً لا يعرف ما هي الأولويات التي يركّز عليها هذا الجنرال الأميركي؟ وكيف يفكّر؟ وما هي الإنجازات التي حقّقها لغاية الآن؟ حتى اللجنة الأمنية التي يرأسها، طالت قيلولتها في الكواليس، لا أحد يعرف ما يجري في غرفها المغلقة؟ وكيف حال صحة قرار وقف إطلاق النار؟ وهل يخضع لعمليّة تجميل، أم يلفظ أنفاسه الأخيرة؟

حجّة لبنان أنه إلتزم. توقف عن إطلاق النار. تموضع إعلامياً خلف الدولة. لكن العدوان لم يتوقف، بل زادت وتيرته، وكأن المطلوب أميركيّاً التعايش مع مرحلة ضبابيّة شديدة التعقيد قبل بزوغ الفجر الآتي، والدليل أن الأوروبي المهيض الجناح يأتي ليطالب بالإصلاحات، ويمنّن النفس بأنه على إستعداد لتقديم المساعدة، لكن بعد أن تنجز بيروت ما يتوجب عليها إنجازه من “فروض” في “مدرسة الإصلاح”.

ولا يتوانى الأوروبي عن “الكزدرة” على طول شاطىء بيروت. يأتي “عاشق”، ويذهب “مشتاق”. وفود تتدافش، ويحتكّ أكتاف بعضها بالبعض الآخر، لكنها تخرج سليمة نظراً لخفّة الوزن. لم يعد الأوروبي صاحب ثقل. أعطبه دونالد ترامب. جرّده من سلاحه في أوكرانيا، وأثقل كاهله بالتعرفة الجمركيّة، فتضاعفت مسافات التباعد ما بين ضفتي الأطلسي، وأصبح الإتحاد الأوروبي أمام خيارين أحلاهما مر: إما أن يذعن، ويلتحق بالقطار “الترومبي” مسلّماً بإملاءاته وشروطه ومزاجياته، أو أن يترجل ويبحث عن قطار ومحطة وسكة تقوده إلى اتجاهات لم يكتشف مجاهلها بعد!

وهكذا يبدو المسار الدبلوماسي اللبناني أمام أوروبي ضعيف، تائه، لا يعرف من أين تأتيه الصفعات، ويتذاكى علينا بشعارات ممجوجة من كثرة التكرار. وأميركي أهوج يريد التغيير، ويريد فرض أحكامه على الحلفاء، والشركاء، والضعفاء.. قبل الأقوياء. يريد “ريفييرا الشرق الأوسط” في غزّة، وإحتواء المفاعلات النوويّة الإيرانيّة، وتغيير وجه المنطقة وفق السرديات التي يطلقها ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب الجوّال بين العواصم المستلقية على خطّ الزلزال.

وآخر ما تفوّه به: أن المسار الدبلوماسي اللبناني ـ على نواقصه ـ يبقى الممكن، والمتاح، ولا عودة إلى الوراء، بل إصرار على الدفع نحو الأمام، وإنتظار ما ستفضي إليه “الرسالة المجنّحة” من خيارات.. مفاوضات أو مواجهات.. والمطلوب أن يكون اليوم التالي في المحور، بمواصفات أميركيّة.. وضمناً لبنان!