| علاء حسن |
عندما تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن استراتيجيته في إنهاء الصراعات والحروب، لم يتنبه أحد إلى ما يصبو إليه الرجل حول كيفية إنهاء الحروب و”إحلال السلام”، كما ادّعى، فقد اعتبر غالبية السياسيين أن ترامب، وانطلاقاً من خلفيته التجارية والاقتصادية، سوف يجمّد الصراعات تمهيداً لنمو اقتصادي عالمي يبدأ بالولايات المتحدة نفسها، وذلك خوفاً من تكرار الركود الاقتصادي الكبير.
لكن ما لم يلتفت إليه الكثيرون أن ترامب أراد إنهاء الصراعات عبر تجفيف مصادر الصراع نفسه، وفق رؤيته ورؤية الولايات المتحدة، وليس تجميد الصراعات.
ومن هذا المنطلق، فإن الولايات المتحدة التي تريد رسم خريطة العالم من جديد، وتسعى نحو قفزة نوعية تؤهلها للسيطرة على العالم لعقود من الزمن، بدأت ـ وستعمل ـ على إنهاء وجود كيانات واحتواء أخرى وتصعيد كيانات أخرى، لترتسم معالم العالم الجديد وفق ما يحقق هيمنتها ومصالحها في آن.
[ولكي نفهم أكثر مفهوم “القفزة النوعية”، يكفي النظر إلى ما يقدمه ترامب لأيلون ماسك، والنفضة الكبيرة التي يقوم بها داخل أروقة الدولة الأميركية، حتى تتضح معالم ما يعمل عليه الرئيس الأميركي ابتداءً من داخل الولايات المتحدة].ما يهمنا نحن في الدرجة الأولى، هو مصير شعوبنا ومنطقتنا القابعة تحت السندان الأميركي والخنوع الرسمي، فكيف ستكون الصورة المقبلة في الأشهر القليلة القادمة على الأقل؟
عند انتهاء وقف العدوان على لبنان عبر اتفاق وقف اطلاق النار، وبعده تسلسل الأحداث، من سقوط سورية بيد “هيئة تحرير الشام”، وصولاً إلى تنفيذ المرحلة الأولى من صفقة تبادل الأسرى بين “حماس” و”إسرائيل”، ظنّ البعض أن المرحلة المقاومة ستشهد حصاراً على فكرة المقاومة وصولاً إلى خنقها عبر الأطر الدستورية والقانونية، فضلاً عن الماكينة الإعلامية المستمرة في الضخ. وبذلك يكون قد تحقق مطلب ترامب في وقف الحروب، وفي ذات الوقت تبدأ الأدوات الأخرى بالعمل، وهو ما يؤمن الكثير من فرص العمل للذين يمتهنون التزوير ويخافون من أزيز الرصاص، ليس حقناً للدماء، بل جبناً وخوفاً.
لكن المراقب لما جرى، ابتداءً من يوم الثامن والعشرين من تشرين الثاني 2024 ولغاية اليوم الذي يتم فيه قصف المدنيين في غزة واليمن ولبنان، يدرك أن فكرة السلام بالقوة في منطقتنا تعني بالنسبة للأميركيين شيئاً واحداً فقط، وهو إبادة المقاومين وقتل فكرة المقاومة، ولا شيء سوى ذلك.
فالسلام في منطقتنا، من وجهة النظر الأميركية، لا يعني سوى الاستسلام لـ”إسرائيل” ولو على حساب الحق والأرض والعرض، مقابل فتات من المساعدات تكون مرهونة باستمرار الاستسلام وتقديم المزيد من التنازلات.
وبالمناسبة، إن فكرة المقاومة في لبنان (المقاومة كرد فعل على العدوان) بدأ بظروف تشبه الظروف الحالية، حين قرر الأميركيون أن المنطقة يجب أن تدخل العصر الاسرائيلي، وأن على جميع الدول والشعوب أن تنحو هذا النحو وأن تقدم واجب الطاعة للصهاينة، متناسين حينها (واليوم) أن فطرة الانسان تدعوه إلى رفض الظلم والقهر، وهذا ما فعله الفلسطينيون قبل اللبنانيين، وقبلهما كثير من الشعوب ومنها الشعب الفيتنامي.
وتنامت المقاومة، ليس فقط بسبب التراكم في العمل والأداء وقوة الإرادة الراسخة، بل بسبب استمرار ممارسات المحتلين والمستكبرين، حتى عندما أراد الراحل “أبو عمّار” تجربة نوع آخر من التعامل مع العدو، انتهت تجربته بفشل مدوّي، وتم اغتياله في نهاية المطاف رغم الكم الهائل من المهادنات التي عمل بها منذ ما قبل اتفاق أوسلو وصولاً إلى الانتفاضة الثانية وبعدها سنوات الحصار والاغتيال. أي أن المنخرط في العمل المقاوم أصبح يشاهد بأم العين نتائج جهوده ونتائج الاستسلام، ما جعله يتمسك أكثر فأكثر بخياره طيلة العقود الماضية.
ثم هناك المعيار الإنساني الذي يميّز بين الانسان الحر والانسان العبد، بمعنى أن هناك مستوى من الإنسانية لا تقبل معها فرض الشروط الظالمة، فكيف إذا ترافق ذلك مع تشغيل آلة القتل بمختلف أنواعها؟ أما الإنسان العبد، فهو الذي يتذرع بشتى أنواع الذرائع ليقبل بالذل، وهذا ما يأبى الإنسان الحر الركون إليه وإن كانت حياته ثمناً له.
وبالعودة إلى ما يريده ترامب، يبدو واضحاً أن الأميركيين والاسرائيليين مصابون بثلاثة عناوين تحركهم، وتكون منشأً لسلوكهم تجاه شعوب منطقتنا:
العنوان الأول وهو “الاستكبار”. لن أدخل إلى تعريف “الاستكبار” من الزاوية القرآنية الآن، لكن هؤلاء لم يشعروا يوماً أننا متساوون معهم في الحقوق، ولم يتعاملوا مع منطقتنا سوى من منطلق الهيمنة ونهب الثروات.
العنوان الثاني هو استثمار النصر. يعتقد الأميركيون والاسرائيليون على حد سواء، أنهم، ومنذ “طوفان الأقصى” ولغاية اليوم، حققوا مجموعة من الانتصارات قوّضت الطرف المقابل وأخرجته من حالة التوازن إلى حالة التأرجح. وعليه، يجدون من غير المنطقي والمقبول السماح له باستعادة توازنه والعودة إلى ما كان عليه.
لذا نجدهم مستمرون بعملياتهم العسكرية في أكثر من جغرافيا، تمهيداً لاستهداف ما يسمونه “الرأس”، أي إيران، وبذلك ينتهون من فكرة المقاومة في المنطقة، خصوصاً بعدما ضمنوا الدول والحكومات بشكل لم يسبق له مثيل.
العنوان الثالث والأهم، هو قناعة هؤلاء أن فكرة المقاومة أصبحت في وجدان الشعوب يتناقلونها جيلاً بعد جيل، ولذلك يريدون إحداث صدمة، تؤدي إلى شرخ في القناعات، كي يتمكنوا من وضع أفكار جديدة في عقول وقلوب الجيل القادم، وهذا لا يحدث باعتقادهم سوى بإبادات تقتل جيلاً كاملاً ومعهم الشخصيات القيادية والأفكار والشعارات وحصول مآسي، تُدخل اليأس إلى قلوب الباقين الذين سيقومون بتهجيرهم وتشتيتهم منعاً لاعادة تكوين كتلة بشرية جديدة متماسكة.
بالتالي، وأمام هذا النوع من التآمر، تسقط النظريات الباقية، ومنها الحصار الاقتصادي والسياسي، وحتى سعي الأطر الدستورية لخنق الجماعات الخارجة عن إرادة التطبيع بذرائع عديدة، لأن العدو نفسه لن يصبر أمام هذه الجماعات التي تشكل عنواناً “للإنسان الحر” مقابل العبيد المنتشرين في كل مكان، ولأن الاستعلاء الراسخ في الأعداء لن يقبل برؤية أناس مخالفين لأصل وجوده يقومون من جديد.
ومن هذه الزاوية يمكن الاستطراد لفهم مفهوم الانتصار الذي تحدث عنه الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم مراراً خلال الأشهر الماضية. فلغاية اليوم، مشاهد الصمود والإرادة المنتشرة من كل الدول التي فيها جماعات مقاومة، ابتداءً من فلسطين وصولاً إلى اليمن، لم يقطف العدو ثماراً لكل المجازر التي حصلت ولكل الدمار الذي قام به، فكأنما لم تحصل الحرب ولم يفقد كل واحد عزيزاً وأكثر. لذا عندما يقتل العدو ولا يحصل تبدّل في القناعات ولا كسراً في الإرادة، فإن هذا بحد ذاته انتصارٌ للمظلومين وفشلٌ للمجرمين الممعنين في القتل والتدمير والإبادة.
في المحصلة؛ عندما لا يحدث تغيير في سلوك العدو تجاه شعوب منطقتنا، يصبح الحديث عن المدنية والسلمية مجرد هراء. وعندما لا يتوقف العدو عن قتل شعوبنا، يصبح الحديث عن التطبيع مجرد خيانة. وعندما لا يتوقف العدو عن محاولاته اقتلاع اصحاب الأرض من جذورهم، يصبح الحديث عن الرفاهية وترك السلاح مجرد غباء.
أما كيف سينفّذ العدو خطته، وهل سيعود لحربه على لبنان ـ كما عاد بالأمس على غزة ـ أم أنه سيستثمر في جغرافيا مختلفة هذه المرة مثل الضفة التي تتعرض منذ اشهر لما تعرضت له غزة لكن من دون إعلام؟ هل سيستثمر في سوريا ليضمن خنق المقاومة أولاً أو لا؟ هل يبدأ بضرب إيران حتى يتسنى له لاحقاً الاجهاز على المقاومات بسهولة أكثر؟
هذه كلها أسئلة تحتاج إلى الكثير من الأسطر للإجابة عليها، ولعله في عناوين مختلفة، لكن الثابتتين الوحيدتين في كل ما قيل، أن العدو لن يركن إلى السلم مادام في الشعوب عرق مقاومة ينبض. والثانية أنه لن يرى الاستسلام ما دام في الشعوب عرق مقاومة ينبض.