“فتوى السلاح” في إيران.. لا في ضاحية لبنان!

| جورج علم |

إسترجاع السيادة لا يقتصر على العقار، بل على القرار أولاً. وهذا الأخير مُصادَر. لا الدولة قادرة على الخروج من تحت العباءة الأميركيّة، ولا “حزب الله” قادر على التحرّر من العباءة الإيرانيّة، وعدم القدرة يعني عدم الإمكانيّة، في ظلّ أوضاع داخليّة صعبة ومعقّدة، ومشاريع دوليّة ـ إقليميّة، توسعيّة، إحتوائيّة.

خطف الرئيس دونالد ترامب، على وجه السرعة، الأنظار نحو الشرق الأوسط. لم تعد أوكرانيا محور الحدث، بل صنعاء، والحوثيين، وسلامة الملاحة في البحر الأحمر، وطهران، ومستقبل العلاقات الأميركيّة ـ الإيرانيّة، ورسالة البيت الأبيض إلى المرجعيّة العليا، والأبواب المفتوحة على شتّى الإحتمالات.

كان الرهان أن تضغط الإدارة الأميركيّة، وتضع قرار وقف إطلاق النار موضع التنفيذ الفعلي في 18 شباط الماضي، ولكن هذا لم يحصل، فجمّد القرار، أو أهمل، وفتحت صفحة جديدة، على مسار جديد عنوانه “ما بعد الإتفاق ليس كما قبله”.

ويُقتبس هذا العنوان من محضر الإجتماعات التي عقدها بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، وكان تفاهم بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي على أن وقف النار في الجنوب لا ينتهي بوقف الخروقات، وكمّ أفواه المدافع، ولا بالإنسحاب من الأراضي اللبنانية، بل بـ”ضمانات” أمنيّة وإقتصاديّة وسياسيّة.
من يوفّر هذه “الضمانات”؟

الحوار، بإشراف الولايات المتحدة، ورعايتها من خلال اللجنة الأمنيّة برئاسة الجنرال الأميركي جاسبر جيفرز، وأيضاً من خلال طواقم دبلوماسيّة، يصار العمل على إعدادها.

لبنان الرسمي، يرفض الحوار. حجّته أن إتفاق وقف إطلاق النار، واضح لا يحتاج إلى أيّ تفسير، ويجب العمل على وضعه موضع التنفيذ.

ولبنان الرسمي يقبل الحوار “غير المباشر”. قَبِلَ به عند ترسيم الحدود البحريّة في الناقورة بهندسة وإشراف الأميركي أموس هوكشتاين. ويقبل به تحت عناوين وسقوف محدّدة، والدليل أنه شارك في الإجتماع الأخير الذي عقد في الناقورة، الأسبوع الماضي، إلى جانب الأميركي، والفرنسي، والإسرائيلي.

ولبنان الرسمي يريد حصر السلاح بالدولة، ولكن كيف يكون له ذلك، في ظلّ الخرق الإسرائيلي المستمر لقرار وقف إطلاق النار، وإحتلاله للعديد من المواقع الإستراتيجيّة اللبنانيّة، وإصراره عل إستحداث منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلّة؟

يضغط الأميركي على لبنان الرسمي:
– لمعالجة سلاح “حزب الله”، كشرط ملزم لأي تقدّم بإتجاه تطبيق إتفاق وقف إطلاق النار.
– القبول بالحوار، وإختيار فريق عمل من مدنيّين وعسكريّين، مقبول أميركيّاً للتفاهم على “ضمانات” أمنيّة، لوجستيّة، إقتصاديّة، تشكل ملامح مواصفات اليوم التالي في الجنوب.
– وضع القرار 1701 موضع التنفيذ، بعد التوصل إلى تفاهمات حول “الضمانات”. وبكلام صريح: “الضمانات” هي المدخل الفعلي لتنفيذ القرار الدولي.
ويبدو العبء كبيراً، إذ لا يمكن للبنان الرسمي مواجهة الأميركي بالرفض، كما لا يمكنه الإنصياع بالكامل إلى إملاءاته، في ظلّ المناخ الملبّد بالتحديات المصيريّة، خصوصاً بعدما نجح الرئيس ترامب بنقل أنظار العالم التي كانت تحوم حول أوكرانيا، إلى الشرق الأوسط، والإهتمام بطروحاته، ومتابعة جديدها، من تحويل غزّة إلى”ريفييرا” بعد تهجير سكان القطاع، إلى الرسائل “المفخّخة” بالإملاءات، والعقوبات مع إيران، إلى المواجهة المباشرة مع الحوثيين في اليمن.

كان من السهل على لبنان الرسمي معالجة عقدة السلاح، لو كان المناخ في الشرق الأسط مؤاتيّاً، بعيداً عن الغطرسة الإسرائيليّة، لكن أن يُطالب بنزع سلاح “حزب الله”، ومصادرة ترسانته، في عزّ المواجهة مع إيران حول برنامجها النووي، ونفطها، ودورها في الأقليم، فهذا من المستحيلات.

قد يكون لدى “الحزب” الرغبة في التعاون مع الدولة لتسهيل أمرها، وتمكينها من مواجهة التحديات، لكن قرار السلاح ليس عنده، بل عند المرجعيّة، وهو في الأساس بند مدرج على جدول أعمال أيّ مفاوضات أميركيّة ـ إيرانيّة قد تجرى، حاضراً أو مستقبلاً، إلى جانب بنود أخرى.

وما بين الضغط لتفجير الوضع الأمني في الداخل، تحت شعار “العمل لمصادرة السلاح، وحصره بمرجعيّة الدولة”، وبين “الاستسلام” للغطرسة الإسرائيليّة، تختار بيروت أهون “الشريّن”. الحرب الأهليّة مكلفة، وتطيح بما تبقى من وحدة عيش مشترك، فيما الإستسلام لإملاءات السيطرة والغطرسة مجرّد حرب إستنزاف تمتص ما تبقى من إمكانات صمود وإستمرار.

يقول لبنان الرسمي إن لا خيار متاح أمامه سوى المسار الدبلوماسي لتحرير الأرض، وإستعادة السيادة. الخيار العسكري أشبه بالإنتحار في ظلّ الإمكانات المتواضعة لدى الجيش اللبناني من الأسلحة والعتاد، مقابل التفوّق التكنولوجي الإسرائيلي، والدعم الأميركي المطلق. لكن المسار الدبلوماسي ينتهي عند المصداقيّة الأميركيّة التي هندست إتفاق وقف إطلاق النار، ووعدت بالمساعدة على تطبيقه، وتنفيذ القرار 1701، فيما هذه المصداقيّة، كما يتبيّن من مجرى الأحداث والتطورات، تنتهي عند مصالح “إسرائيل”، والشروط المفخّخة التي تصرّ على تنفيذها تحت شعار “الضمانات” المطلوبة على طول الحدود مع لبنان لتوفير العودة الآمنة لسكان الشمال”!

وآخر الكلام، أن الخرق الإسرائيلي المستمر لقرار وقف النار، وإصراره على عدم الإنسحاب من المواقع التي يحتلّها، والمواجهة الأميركيّة للحوثيّين في اليمن، والمستقبل المفتوح على كل الإحتمالات ما بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” من جهة، وإيران من جهة أخرى، كلّها عوامل تساعد على وضع سلاح “الحزب” في خط الدفاع الأول عن المصالح الإيرانيّة، سواء أكانت الوجهة دبلوماسيّة تفاوضيّة، أو تصادميّة عسكريّة.

إن قرار سحب السلاح ليس في الضاحيّة، بل عند المرجعيّة العليا في إيران، كونه جزءاً لا يتجزأ من إستراتيجيّة المواجهة المفتوحة على كل الإحتملات.