| خضر طالب |
تجاوز تشييع الأمينين العامين لـ”حزب الله” الشهيدين السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين، طوفان الدموع التي ذرفها المؤيدون والمحبون من كل الأطياف، وفيضان المشاعر الهائلة في بيئة الشهيدين، الدينية والسياسية.
جاء الحشد الضخم وفاء للرجل الذي قاد مقاومة نجحت في كسر شوكة العدو الإسرائيلي لأول مرة في تاريخ المواجهات العربية مع هذا العدو، ثم قدّم حياته فداء لفلسطين التي سقطت من “الإيديولوجيات” الجديدة التي اعتنقها العرب وتقوم على مفهوم “السلام الإبراهيمي”.
شكّل “طوفان الأقصى” محطة مفصلية في تاريخ الصراع، أذلَّ “الطوفان” العدو الإسرائيلي و”قَلَبَ الطاولة” على مشاريع التطبيع.
كان الرد الإسرائيلي الوحشي والهمجي محاولة لإلغاء مشاهد الإذلال لضباطه وجنوده التي انتشرت في العالم.
فُتِحت “شهية” العدو الإسرائيلي على المجازر في غزة ولبنان، وعلى تنفيذ الاغتيالات التي شكّلت ضربات قوية وموجعة للمقاومة الفلسطينية واللبنانية.
“انتعشت” آمال خصوم “حزب الله”، واندمجت التمنيات بالتحليل الذي توصّل إلى “خلاصة” مفادها أن “حزب الله انتهى”.
سقط نظام بشار الأسد في سوريا، وانتصر خصوم “حزب الله” في سوريا.
“حسم الأمر”… لبنان، وسوريا، والشرق الأوسط، أمام “تحوّل كبير”.
“تحمّس” بنيامين نتنياهو وأوكل نفسه مهمة “تغيير وجه الشرق الأوسط”.
حصلت انتخابات رئاسية في لبنان، وتم تكليف نواف سلام برئاسة حكومة شكّلها بمضمون يعطّل تأثير “الثنائي الشيعي” على القرار فيها.
ساد الاعتقاد أن لبنان صار تحت الرعاية الأميركية بالكامل، وأن الشرق الأوسط دخل في “العصر الأميركي” من خلال “الشرطي الإسرائيلي”.
تطورات دراماتيكية أصابت جمهور “حزب الله” والمقاومة بالإحباط… لكنها أصابت البيئة الشيعية بمشاعر الضعف وتراجع الدور وانتهاء “الشيعية السياسية”.
انفضّ كثيرون عن تحالف “محور المقاومة” في لبنان، مما زاد في الانطباعات بأن المقاومة “انتهت”، أو على الأقل أصابها الضعف وأصبحت غير فاعلة أو مؤثرة، وأن الوقائع العسكرية فرضت تحولات سياسية بدأ خصوم المقاومة يتعاملون معها باعتبارها حقيقة نهائية.
لكن، في الواقع، فإن هذه “التحولات” لم تكتمل، كما أن المقاومة لم تعلن “الاستسلام”، ولم تلقِ السلاح، لم تعترف بـ”الهزيمة”.
البعض كان يفسّر ذلك بأنه “حالة إنكار”، لكن حزب الله كان يتحضّر لتقديم البراهين على استمرار قوته وتأثيره.
ليست هي المرة الأولى التي تتعرّض فيها “المقاومة” لضربات موجعة يفترض أن تكون كافية لهزيمتها، بغض النظر عن مكوناتها في كل مرحلة.
في العام 1982 اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان، وعاصمته بيروت، وصولاً إلى جسر المدفون عند حدود محافظة شمال لبنان، وإلى المديرج عند حدود محافظة البقاع.
فرض العدو الإسرائيلي على لبنان توقيع “اتفاق 17 أيار”.
حضرت إلى لبنان قوات أميركية وفرنسية ومتعددة الجنسيات، وتمركزت في بيروت لفرض واقع جديد بعد “سقوط المقاومة” اللبنانية وترحيل المقاومة الفلسطينية.
أُصيبت قوى المقاومة آنذاك بضربات “شبه قاضية”. لكنها نجحت، لاحقاً، في التقاط أنفاسها وقدراتها، واستطاعت أن تقلب الطاولة من خلال “انتفاضة 6 شباط 1984″، واستَعادت زمام المبادرة.
تشبه التطورات الحالية تلك المرحلة، مع فوارق تتعلّق بالقوى التي تتكون منها المقاومة، وكذلك بطبيعة الحرب في الزمنين، وفارق جوهري يتعلّق بقدرات المقاومة.
في 1982، حصل اجتياح إسرائيلي للبنان، وكانت المقاومة الفلسطينية تشكل القوة الرئيسة في مقاومة الاحتلال، وعند رحيلها، تأثّرت قوى المقاومة اللبنانية وتأخّرت في إعادة تجميع قدراتها.
أما في 2024، فإن الحرب كانت بالتدمير والمجازر والاغتيالات، كما أن المقاومة تتكوّن من “حزب الله” بشكل رئيسي، مع حركة “أمل” وحلفاء آخرين.
خسرت المقاومة أعلى رمز فيها، السيد حسن نصر الله، ثم السيد هاشم صفي الدين، وكذلك كبار قادتها السياسيين والعسكريين.
انتظرت المقاومة.. عضّت على جروحها العميقة.. ثم قرّرت إطلاق “الهجوم المضاد” في تشييع شهيديها الكبيرين.
حجم الحشود التي شاركت في التشييع، كان رسالة واضحة وصريحة أن “حزب الله” ما زال متماسكاً، وأثبت ذلك من خلال الوقائع التالية:
ـ الطوفان البشري الضخم في التشييع، والذي وضعه بين المراتب المتقدمة للجنازات التاريخية في العالم.
ـ دقّة التنظيم والتحضير والإدارة، ما يؤكّد أن قطاعات “حزب الله” ما تزال فاعلة وتعمل بكامل طاقتها.
ـ الحشد البشري من البيئة الشيعية التي جدّدت التفافها حول “الثنائي الشيعي”، وأكدت أن الحرب وخسائرها لم تؤثّر على هذا الارتباط بين المقاومة وبين بيئتها.
ـ تأكيد قوة “حزب الله” في مواجهة أي محاولة لإلغائه، وأن الضربات التي أصابته، آلمته ولكن لم تُسقطه.
وقد جاءت كلمة الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم لتترجم هذه الوقائع بمزيد الرسائل:
ـ “حزب الله” ما زال قوياً، وهو أعاد ترميم قطاعاته.
ـ المقاومة ليست ضعيفة وتحتفظ بقواها الشعبية والتنظيمية والعسكرية.
ـ المقاومة لم تلقِ السلاح وهي لن تسكت على استمرار الاحتلال الإسرائيلي للعديد من المناطق في جنوب لبنان.
ـ “حزب الله” لن يقبل بالسيطرة الأميركية على لبنان، وبمعنى آخر، لن يسلّم “حزب الله” بما يسمى “العصر الأميركي”.
ـ قضية فلسطين لم تسقط من إيديولوجية “حزب الله”.
ـ المقاومة تُكتب بالدماء ولا تحتاج إلى الحبر على الورق، وتثبت بالتضحية، وذلك في إشارة إلى عدم تضمين البيان الوزاري أي إشارة إلى المقاومة.
عملياً، أطلق تشييع الشهيدين نصر الله وصفي الدين في 23 شباط، شرارة “انتفاضة 6 شباط” جديدة لإسقاط “17 أيار” الجديد.
كل المؤشرات تقود إلى أن “حزب الله” ذاهب إلى نهج جديد في التعامل مع الوقائع، لكنه سيستثمر في الحشد المليوني من أجل “فرملة” التحولات ومحاولات فرض أمر واقع جديد في لبنان يقفز فوق مكانة وقوة ودور المقاومة.














