/ جورج علم /
كانت النزهة في الوعر الشمالي، إنتخابيّة، لكنها ممتعة. مخالطة الناس العادييّن، الإستماع الى سجيتهم العفويّة من دون تكلّف، الإنخراط في “دردشة” حول فنجان قهوة عند مقهى الرصيف، ولا مانع من منقوشة على صاج “أم سايد” التي وصفت “التغيير” على طريقتها: “إيه… كيف ما في تغيير؟.. إستبدلنا الحطب بالغاز، لكن الصاج بعدو على حالو، وكمان المنقوشة.. يا تعتيرنا من هالتغيير.. لو نبقى عالحطب كانت الكلفة أقل، ونكهة المنقوشة أطيب”.
الطريق الى الإنتخابات، مخفوقة، معجوقة بالصور، واليافطات، والشعارات المرفوعة عند مداخل الجوع، والفقر، والحرمان. وفوق أعمدة الذل، واليأس، والإحباط. وعند جدران الفراغ، والقنوط، والقرف.
الناس غير ناس، والتساؤلات غير تساؤلات، إنها تراجيع وجع، وقلق، وخوف من الآتي. ليس البحر وحده من يبتلع الطفولة والبراءة، بل النفاق السياسي أيضاً في عزّ “كرنفاله الماسي”، حيث الإفلاس الأخلاقي، بأعلى مظاهره، والتكاذب في ذروة تألقه، وكأن الغالبية من الوجوه الطامحة قد وفدت الى الواقع من عطارد أو زحل، ولم تكن شريكة مشاركة على مدى عقود، وسنوات، في ذبح الوطن، والمواطن من الوريد للوريد.
- في مجلس “الأركيلة” في الفيحاء، وعند طاولة الزهر، حديث عن مال انتخابي، وعن خدمات بسيطة، وعن وعود بمساعدات…
الحاج أبو أحمد يقول: “معظم الوجوه لا نعرفها، والمدينة لا تنتخب شعارات، هناك حنين للبيوتات العتيقة، تحت قناطرها شيء من روح المدينة. الوفاء، والأصالة، وعبق التاريخ. في ديوانياتها أذن تسمع، وعين تراقب، وقلب يشعر، ويغمرك صاحب الدار بشيء من الدفء”.
يضيف: “هناك مليارات في المدينة، أنتجت وجاهات، ولم تنتج زعامات. الزعيم تصقله الأعمال والأفعال، لا تصنعه بيوت المال”!
وتسأله، فيجيب: “إبن كرامي (فيصل) ليس وحده، هناك بيوتات ومرجعيات لها تاريخ، وتراث، وصدى عميق في وجدان المدينة. وفيصل ينضح ببعض الشذى الذي تركه أولئك الذين عبروا تحت عمامة عبد الحميد كرامي، وقد حملته المدينة على منكبيها، بعدما حملها ردحاً من الزمن، على منكبيه، نحو الخط العروبي الأمامي”.
- في زغرتا، الشارع مختلف، تتقدم فيه الحركة التجارية على الحماوة الإنتخابيّة. الإنتخابات هنا، بيوتات، وعائلات، وعصبيات.
صاحبة محل الألبسة الجاهزة ترفض البوح بإسمها، ولكنها جريئة، مثقفة، ومسيّسة، تقول: “النتيجة هنا معروفة، القديم يرجّح أن يبقى على قدمه، رغم المال الإنتخابي الذي يجول في القضاء مع الأحزاب الدخيلة. هناك حيويّة إنتخابيّة في بلدات القضاء. هنا (زغرتا) التوازنات معروفة، والأحجام أيضاً، وهمّنا التجارة، وتدبير الحال، وتأمين الدواء والغذاء بالمال الحلال”.
وتسألها عن “التغيير”، فتجيب بعفويّة: “التغيير موجود، الحركة الشبابية كانت ناهضة في المنطقة، ولها حضورها في ساحات 17 تشرين 2019، الشعارات لا تزال على الحيطان، لكن أين الإنتفاضة؟ لقد إستسلمت لقيلولة طويلة، تحوّلت الى سبات عميق”!
تضيف” “بدّك الدغري… هناك حنين للبيوتات العتيقة، المفتوحة أبوابها أمام الناس في هذه الأيام الصعبة. وزغرتا ـ تاريخيّاً ـ وفيّة لهذه البيوتات وأصحابها، فكيف الحال اليوم، والبلد على كفّ عفريت، والمصير أمام مجهول؟”.
تضيف: “نحن في زغرتا مهتمون للإنتخابات الرئاسيّة، أكثر من النيابيّة. والمواصفات عندنا موجودة، ومتطابقة، وسليمان بك ما بيشكي من شي. لبناني بعيار 24 قيراط. مسيحي إبن هذه البيئة التي أنتجت أبطالاً، وبطاركة قديسين. منفتح، صادق، وفيّ، إذا قال فعل، ورجل حوار، وتدوير زوايا، وصاحب خط عربي واضح. ثم إن زيارته الأخيرة الى موسكو كان لها الوقع الكبير في الشمال، والصدى الواسع على مستوى كلّ لبنان”.
وتستدرك: “سألتني عن التغيير… وفاتني القول بأن طوني بك مظلوم. الإعلام المحليّ لم ينصفه – وأنا قلت لهم في بنشعي إفتحوا الأبواب شوي حتى يدخل الأوكسجين، لا تكتفوا بالشبابيك! ـ طوني أحدث تغييراً كبيراً، خلع العباءة العائليّة التقليديّة عن تيار “المردة”، وحوّله الى حزب شبابي منظم. حزب يضمّ الكفاءات، والنخب، وتعصف في دوائره الروح الشبابيّة، وترتفع مداميكه على أسس متينة، قوامها القطاعات المؤسساتية المميزة بالكفاءة، والخبرة، والحداثة، وإذا حافظت هذه النفضة على الزخم الذي هي عليه حاليّاً، فإن الحزب سيتحول سريعاً إلى علامة فارقة في الحياة السياسيّة”.
- تترك زغرتا، وديناميتها، فتستقبلك الكورة الخضراء باغصان الزيتون المشبوكة خيراً وبركة. أميون عاصمة القضاء، وفي الساحة صورة كبيرة للقومي العتيق، وصاحب الحضور المميّز في المجلس النيابي، سليم سعادة.
يقول محدّثي: “أميون، علمانيّة، منفتحة، مفتوحة على الجرد، وعلى منبسط السهل، وتضمّ منتسبين ومناصرين لكل الأحزاب، والتيارات، لكنها تبقى وفيّة للأوفياء، (ويشير بيده الى صورة سعادة)، سليل عائلة معطاءة، وبيت مفتوح في السراء والضراء”.
في كوسبا، بلدة النائبين السابقين نقولا غصن، وفايز غصن، أكثر من مرشح، وللقوات اللبنانية حضور لافت، إلاّ أن صاحب الجرّار الزراعي، يصرّ على القول: “بدك الحقيقة… العصبيّة في كوسبا ميّالة لبيت غصن أصحاب البيت المفتوح منذ أيام فؤاد غصن (النائب، ووزير البريد والبرق والهاتف في ستينات القرن الماضي)”.
- في بشري، من المستحسن عدم الإقتراب من “المحظور”، إنها “قلعة القوات” بإمتياز. لكن في بشري اليوم سليل بيت سياسي عريق، هو ملحم طوق، نجل النائب السابق جبران طوق، والذي يخوض السباق معتدّاً برصيد واسع من المؤيدين والمتحمّسين للبيوت المفتوحة أمام عامة الناس.
والعبرة… عندما تشتد العواصف، تبقى القلاع صامدة. وأمام العواصف التي تتهدد الكيان، تبقى القناطر الدهريّة ملاذاً لعامة الناس…