لم تنم مدينة طرابلس، ومعها الشمال، وعلى الأرجح كان أصحاب السلطة في لبنان، نيام، لا يعلمون من أمر الناس هماً ولا غماً.
اكتشف الناس.. فقراء المدينة، وما أكثرهم، أن الموت آتٍ، فذهبوا إليه مع عائلاتهم.
رجال ونساء وشباب وصبايا وأولاد وأطفال، باعوا مقتنياتهم، ودفعوا ثمن رحلة بحرية إلى المجهول.
لكأن قدرهم أن يغدر بهم البحر، فيعود بعضهم محبطاً بعد ليلة ظلماء بين الحياة والموت، ويعود بعضهم جثثاً، ويبتلع البحر آخرين منهم ليكون “وطنهم” الجديد…
هؤلاء كانوا نموذجاً عن حالة يأس وصلوا إليها، وهم يخسرون يومياً لقمة عيشهم.
طرابلس هي أيضاً نموذج حاد لحالة الانهيار التي أصابت اللبنانيين، في كل المناطق ومن كل المذاهب والطوائف والانتماءات السياسية والحزبية.
هؤلاء الفقراء الذين يراقبون المآدب السياسية العامرة، يعجزون عن تأمين الحليب لأطفالهم.
هي نقطة على السطر في مسار حياتهم في بلد فقدوا الانتماء إليه. البحر وطنهم. والزورق الغارق هو سبيلهم للهرب إلى المجهول.
أصبح المجهول وطناً بديلاً لأولئك الذين لم يعودوا قادرين على الصبر.
لن تنقذهم انتخابات، ولا حكومات، ولا رئاسات، ولا وزارات…
الجوع ينهش يومياتهم…
وصارت المعادلة سهلة: البحر من أمامكم، والجوع من ورائكم!
اختاروا البحر…
زورق الهجرة هو الطريق إلى “الموت الرحيم”، هرباً من الموت البطيء المؤلم في كنف دولة منهوبة ومستباحة ومفلسة ولم يبق فيها شيء للأمل، بينما رغيف الخبز مغمّس بالقهر…
لم يعد يهم كم هو عدد الذين تم إنقاذهم..
ولم يعد مهماً تعداد شهداء زورق الموت، والزوارق التي ستلحقه… فالموت شهداء غرقاً أفضل من الموت جوعاً وقهراً وإذلالاً…
أليس هذا لسان حال الذين ركبوا البحر على قاعدة “إما النصر بحياة كريمة أو الشهادة”؟
طرابلس ثكلى. ليس مهماً عدد الشهداء.
اللبنانيون غاضبون.
هل ينتصر الغضب على الموت؟ أم ينتصر “الموت الرحيم” على القهر؟
يبدو أن قوافل الهجرة ستكون كثيرة، وأن البحر سيحتضن أولئك المهاجرين إلى رحمة الله!