“فرصة” إعادة الإعمار: أيّ قطاع مصرفي نريد؟

جريدة الأخبار

| محمد وهبة | 

يستعدّ عدد من المصارف لإطلاق منتجات قروض مرتبطة بإعادة الإعمار، عنوانها الترميم أو ما يرتبط به ويماثله، ما يعيد لها بعضاً من النشاط الذي فقدته كلياً منذ خمس سنوات. لكن المصارف تتجاهل نقاشاً يفترض أن يسبق أي خطوة تتعلق بإعادتها من حالة «الزومبي» إلى الحياة، بأنها فقدت كلياً الثقة مع الزبائن، وصارت بنظرهم مجرّد قنوات لعمليات النصب والخداع بدلاً من ممارسة دور تمويلي للاقتصاد يقوم على معايير التنافس الحقيقي في السوق، والخضوع لمعايير تتعلق بحقوق المستهلك من دون أي تمييز أو محاباة. ثمة الكثير من الأسئلة التي تثيرها رغبات المصارف في العودة إلى الحياة. فالمودعون باتوا رهائن لديها، وهي ليست قادرة أو ليست راغبة في رسملة نفسها، وتفشل في إدارة شؤونها التشغيلية، ولم تدفع أي ثمن بعد عن مسؤوليتها في تبديد أكثر من 120 مليار دولار من الودائع أو ما يوازي سبعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي في 2024. ثم يقول بعضها الآن، إنه حان الوقت لطيّ صفحة الماضي والعودة إلى ما قبل الإفلاس حين كانت المصارف آلة الخدمة الرئيسية لاستمرار نموذج الاقتصاد السياسي القائم على استقطاب الأموال من الخارج وتبديدها في الاستهلاك المحلي المستورد، وما ينجم عن ذلك من «هدايا» تحصل عليها أو تقدّمها لقوى سياسية أو لتجار البناء والعقارات… إعادة هذه الآلة إلى الحياة ستكون ضرباً من الخبث والجنون.

المصارف لا تنظر إلى نفسها بهذه الطريقة، بل ترى أنها كانت «مُستغلّة» بشكل عام من القوى السياسية. هذه سرديتها.

حتى إنها لا تعترف بأنها منذ عام 2000 لغاية 2018 صرّحت عن أرباح بقيمة تفوق 30 مليار دولار، بذريعة أنها لم توزّع سوى جزء قليل من هذه الأرباح. وترفض الإقرار بأن لديها مسؤولية بما تملكه كمؤسسات وبالملكيات الشخصية لمساهميها نتيجة عجزها عن تحمّل مخاطر توظيف الأموال (الودائع). المصارف ليست مقسومة تجاه هذه السردية، إنما تنقسم في التعامل مع النتائج. هناك عدد من المصارف يعتقد أن لديها أملاك في الخارج أو أصول، يمكن أن تموّل إعادتها إلى الحياة وأن تستحوذ على السوق بمفردها بعد أن تبتلع المصارف الأخرى. وهناك قسم آخر يعتقد أن إعادة الهيكلة يجب أن تتضمن ما يتيح الفرصة لكل من يريد العودة إلى الحياة بشروط جديدة قائمة على الإقراض السوقي والمنافسة السوقية.

طبعاً، كل هذا النقاش لا يمكن أن يتّضح من دون رؤية واضحة لهوية الاقتصاد السياسي المقبلة للبنان. لكن دور المصارف في الاقتصاد الرأسمالي لا يمكن أن يتمحور حول إقراض الدولة أو توظيف الأموال لدى مصرف لبنان لتحقيق الأرباح. التنافس يحدّد قدرتها على الربحية، وهو لا يمكن أن يحصل من دون ملاءة مالية، أي من دون رساميل وسيولة. أما البيئة الاقتصادية التي ستتنافس فيها المصارف، فهي مرتبطة بما يسمّى «دولة». هذه الـ«دولة» يفترض أن ترسم معالم هذه البيئة، سواء عبر قوانين وموازنات، أو عبر قرارات تنظيمية تصدرها الجهة الناظمة التي تدير في الوقت نفسه السياسة النقدية.

بهذا المعنى، تصبح كل الاجتماعات التي تدبّرها بعض المصارف، سرّاً، مع رئيس الحكومة أو مع نواب أو مع ممثلين في الهيئة الناظمة، غير ذات قيمة، طالما أن النقاش يتمحور حول إيجاد طريقة لتعود إلى الحياة من باب الـ«أنا» التي راكمت بعض الأصول من السنوات الماضية، أي من حقوق الناس المبدّدة. فما تتّهم به هذه المصارف، من أنها حققت أرباحاً طائلة وثروات ضخمة من علاقتها بحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، هي شبهة حقيقة، لأن الأخير كان يدير القطاع من خلالها حصراً، وكانت تحصل على هذه الأرباح ثمناً لخدماتها «الجليلة».

فهل من الطبيعي مثلاً، أن مصرف لبنان كان يحدّد عدد تراخيص الفروع وعدد الصرافات الآلية التي يمكن أن تفتحها المصارف سنوياً؟ بهذه الطريقة كانت خطّة العمل تقضي بالحفاظ على الأحجام بلا أي تنافس فعلي، وأن تبقى المصارف قنوات لاستقطاب الأموال من الخارج لإيداعها لدى مصرف لبنان. والمصارف الأكبر حجماً هي الأكثر قدرة على الاستقطاب، والمؤهلة أكثر من غيرها لأرباح بنسب مرتفعة. وهل من الطبيعي أن هذه المصارف كانت ترفض توظيف الأموال في سندات الخزينة اللبنانية، أي كانت ترفض إقراض الدولة، لكنها كانت توظّفها لدى مصرف لبنان بفوائد أعلى بنقطتين مما تدفعه الدولة؟ هذا القطار كان يبدأ بمصارف معينة، وينتهي بالأقل حظوة. وهذا الأمر واضح في تقارير مارسال وألفاريز بعد مقارنة حجم التوظيف والمردود نسبة إلى الحصّة السوقية لكل مصرف.

لكن كيف ينظر مصرف لبنان إلى المصارف؟ لا يزال الحاكم بالإنابة، وسيم منصوري، ينظر إلى القطاع من بعيد، ولو قليلاً. ينتظر أن تقرّ الحكومة ومجلس النواب قوانين لإعادة هيكلة القطاع وتوزيع الخسائر والمسؤوليات، إلا أنه لا يتوقع الكثير من «السلطة» التي «تقف على التلّ». لذا، يستعد بدوره لأن يبني على الوقائع السوقية مساراً يأخذ في الاعتبار تقاطعاً في الأهداف مع صندوق النقد الدولي، وضرورة التعامل مع حقوق المودعين.

وينقل زوار منصوري عنه أنه يستعدّ لفتح نقاش في مجموعة من التعاميم تأخذ في الاعتبار مسألة أساسية: ستأتي إلى لبنان أموال من إعادة الإعمار يمكن توظيفها لإعادة الحياة إلى القطاع المصرفي كما كان عليه من دون أي تغييرات جذرية تتعلق بالدور والوظيفة. فهذه برأيه تعود للدولة. وبحسب المعطيات، فإن من شروط العودة إلى الحياة أن تكون المصارف قادرة على تسديد أكلافها التشغيلية، وقادرة أيضاً، في مرحلة مقبلة، على زيادة رساميلها حين يطلب منها ذلك. هذه الشروط أساسية، وقد نوقشت مراراً في المجلس المركزي لمصرف لبنان. والآن تظهر الفرصة بوجود كمية من الدولارات التي لا يمكن إدارتها من خارج القطاع المصرفي، أو بواسطة قنوات «اقتصاد الكاش». وأيّ إعادة إطلاق للقطاع المصرفي، كما يعتقد، يجب أن تتضمن اقتطاع جزء من الأرباح من أجل تمويل صندوق إعادة الودائع. أما كل ما يقال عن «النموذج» الاقتصاد السياسي في لبنان القائم على استقطاب الرساميل من الخارج وتمويل الاستهلاك المحلي المستورد، فهو «لا يقع ضمن اختصاص مصرف لبنان» وفق ما يُنقل عنه. لذا، برأيه، لا يمكن أن تبقى عملية إعادة الإطلاق التي تحضّر لها المصارف الآن، عملية محدودة، بل يجب أن تكون عملية شاملة وضمن مفهوم ومسار متكامل. وأيضاً أن تكون مبنية على الاقتصاد الحرّ التنافسي وعلى المساواة في الحقوق بين زبون وآخر. منصوري، ليس ثورجياً، بل يتعامل بواقعية حيادية تترك هذا النموذج ليعيش مجدداً وينتج لسنوات مقبلة تراكم المصيبة نفسها التي انفجرت في 2019. أيّ توجيه للإقراض المصرفي، كما يراه، يتطلّب قراراً سياسياً كبيراً.

دورة قصيرة الأجل

من الواضح أن تدفق الأموال إلى لبنان بهدف إعادة الإعمار لن يضخّ الكثير من شرايين الحياة في الدورة الاقتصادية. فهذه الدورة ستكون مبنية على تمويل من الخارج بما يترافق مع ذلك من مخاطر تضخمية وقتل للاستثمار الفعلي. وهي دورة قصيرة الأجل، لأن معظم مواد الإعمار هي مستوردة، وبالتالي ستخرج الأموال سريعاً من لبنان من خلال تمويل استيراد هذه المواد. وسيترافق هذا الضخّ مع تدفق للأموال من تحويلات المغتربين التي باتت تساوي أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي، ومع إنفاق المغتربين الآتين إلى لبنان، ومع المساعدات الأخرى الآتية من الخارج.

4 مليارات دولار

هي قيمة الأموال الموصوفة بـ«الفريش» والمودعة في القطاع المصرفي، وهي لم تزد كثيراً عمّا كانت عليه في الأشهر التي سبقت الحرب، إذ تشير التقديرات لدى مصرف لبنان إلى أنها لم تزد بأكثر من 100 مليون دولار، معظمها من الأموال المخزّنة في المنازل.