| رندلى جبور |
لم أسمع أحداً يشتم تشي غيفارا، أو يصفه بصفات بشعة، أو يتهمه بتوريط أميركا اللاتينية بالمآسي التي يستجلبها العداء للولايات المتحدة ومقاومتها، لأن مآسي التسليم أو التخلي أكبر بكثير، والسلام مع صاحب الرؤى الاستعمارية مزعوم وملغوم ويأتي دائماً على حساب من يضع يده بيد طامع أو مجرم أو عنصري.. وتجاربنا من مصر إلى الاردن وحتى أقاصي الارض، شاهدة.
ركّزوا معي… تشي غيفارا أرجنتيني، عمل مصلحاً اجتماعياً في غواتيمالا، تعرّف على راوول كاسترو في المكسيك، وانضم إلى الثورة في كوبا إلى جانب فيديل حتى صار رمزها، وتسلّح من الاتحاد السوفياتي كقائد “غيريلّا” ثم تمّ إعدامه في بوليفيا…
يا لها من جولة… ومع ذلك لم يشيطنه أحد.
وهو استطاع أن يكون مقاوماً ورجل دولة كوزير للصناعة في آن. يا لها من خلطة. ومع ذلك لم يَقُل أحد انه لا يمكنه أن يكون مع الدولة وفيها لمجرد أنه كان زعيم “حرب عصابات”.
يا للتناقضات في دواخلنا!
لنكون كائناً غير مشلّع، يجب أن نكون إنسانيين بالمطلق.
كيف نكون مع “تشي” الذي أراد تخليص الكثير من دول أميركا اللاتينية من السطوة الاميركية، وانتقل عبر الحدود بثورته لينقذ أخيه في المحيط الجغرافي الأوسع.. ونرفض أن نكون مع المقاومة لمجرد أنها أرادت إسناد إنسان مظلوم على مرمى حجر من حدودنا؟!
وكيف نكون مع “تشي” الجامع بين الثورة والدولة، بينما ننفي على المقاومة حقها في أن تكون مقاومة في الجنوب ومكوّناً اجتماعياً وسياسياً في الوطن؟!
وكيف لا نتهم “تشي” بالعمالة للاتحاد السوفياتي لأنه مدّه بالسلاح بما فيه البالستي، بل صفّقنا له لأنه استطاع تحصيل الدعم من أجل قضيته، ونتهم المقاومة بالعمالة لإيران التي تمدّها بالسلاح لمجرد أنها قررت، منذ انتصار ثورتها، أن تكون مع القضية الفلسطينية ومع كل مقاومة ضد إسرائيل في المنطقة؟
قدّسنا تشي غيفارا كرمز بطولي ثار حتى الاستشهاد، وبعضهم يسخر من أبطالنا ومن القادة المقاومين الذين حملوا قضيتهم حتى الاستشهاد ولم يستسلموا ولم يتخلوا عن قضيتهم ولم يتاجروا بها!
هؤلاء أيضاً سيكونون قصصاً تاريخية عظيمة وخالدة، ورموزاً في الشجاعة والكرامة والعنفوان والنضال، ولو بعد حين، في الوجدان الجماعي المشلّع اليوم.
لا يمكن إلا أن ننحني أمام رسالة طلب مسامحة من مجاهد، ملطّخة أطرافها بالدم وحبرها بالقيم.
ولا يمكن إلا أن ننحني لمن أطلق صاروخاً بأصابع مبتورة وأدار معركة بعين مطفأة إلا من البصيرة والايمان والعزم.
ولا يمكن إلا أن ننحني لأم قدّمت أبناءها شهداء، وبشهادتهم تفتخر على الملأ.
ولا يمكن إلا أن ننحني لقائد قضى على أرض وطنه وهو يعرف أنه مستهدف. فهو مثله مثل أصغر جندي يبقى في أرضه حتى النهاية ولو كانت نهاية للحياة.
ولا يمكن إلا أن ننحني لمال وضعه المجاهدون في بيوت استضافتهم كعربون شكر، وكان بإمكانهم أن يأخذوه ويذهبوا به إلى متعة ما.
ولا يمكن إلا أن ننحني لأصوات بقيت تصدح بجانب الحق، ولو كان السالكون على هذه الطريق قلّة.
ولا يمكن إلا أن ننحني لإعلاميين عملوا من تحت الارض أو في العراء لينقلوا الصورة ويخدموا رسالتهم، ولم يجلسوا في مكاتب فخمة منتظرين المال من هنا وهناك.
نعم هي قصص تصغر أمامها كل النكايات والاتهامات وكل الشتائم والتشويه، وأمام هذه القصص يصبح كل شيء سخيف، لأن أصحابها قرروا أن يسكنوا في المجد ولو رجم الراجمون!
للانضمام إلى مجموعات “الجريدة” على “واتس آب” إضغط على الرابط