“القبض” على نتنياهو وغالانت.. قراءة قانونية

قراءة قانونية حول مصير مذكرات إلقاء القبض الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت:

| الدكتور محمد حبحب |

شكّلت مذكرات إلقاء القبض الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو ووزير الحرب السابق يوآف غالانت صفعة كبيرة لإسرائيل، حيث أنه للمرة الأولى يصدر عن محكمة دولية قرارات تطال قياداتها بسبب ارتكابهم جرائم حرب وإبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، الأمر الذي من شأنه تشويه سمعة هذا الكيان بنظر الرأي العام العالمي، وإلحاق وصمة عار بقياداته باعتبارهم مجرمي حرب أو بالحد الأدنى مطلوبين للعدالة الدولية.

هذا على الصعيد السياسي، أما على الصعيد القانوني، فيقتضي الوقوف على تبعات هذه المذكرات ومعرفة الآثار القانونية والمسار المتعلق بكيفية تنفيذها تمهيدًا لإستكمال الإجراءات القانونية التي ينصّ عليها نظام روما المؤسّس للمحكمة الجنائية الدولية. هذا المسار الذي يؤمل منه في نهاية المطاف أن يتوّج باستصدار أحكام نهائية بحق نتنياهو وغالانت، وإن كان تحقيق ذلك يبقى صعب المنال في ظل توازنات سياسية عالمية ستؤثّر حتمًا في تقويض فاعلية هذه المذكرات أو حتى الوصول إلى استردادها فيما بعد من قبل المحكمة ذاتها.

فالطريق القانوني أمام المحاكم الدولية شاق وطويل، سيًما أن إجراءات هذا النوع من المحاكم يتسّم بالبطء. وما يدلّ على ذلك وجود بعض القواعد القانونية المنصوص عليها في نظام روما التي يمكن أن تكون سببًا لعدم سير المحاكمة في المستقبل، كعدم إجراء المحاكمة غيابيًا على سبيل المثال وليس الحصر. من ناحية أخرى، تطرح الكثير من التساؤلات حول مصير هذه المذكرات في ظل غموض تبعات عدم الإلتزام بتنفيذها من قبل الدول الأطراف في المحكمة أو غير الأطراف وما إذا كانت ستضاف إلى مجموعة مذكرات الإعتقال غير المنفّذة الصادرة عن هذه المحكمة والتي بلغت عام 2023 ست عشرة مذكرة.

تنص المادة 5 من نظام روما على أنه يحق لدائرة ما قبل المحاكمة( الدائرة التمهيدية)، إصدار أوامر إلقاء قبض بحق أشخاص بعد إجراء تحقيقات تسفر عن وجود أسباب معقولة للإعتقاد بأن الشخص قد ارتكب أفعالًا تشكّل جريمة أو أكثر، من الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة. فغاية هذا النوع من المذكرات هو تجنّب هروب الشخص المطلوب أو منعه من عرقلة التحقيق أو لمنعه من الإستمرار في ارتكاب تلك الجريمة أو جرائم ذات صلة. ولهذا فإن المحكمة رأت من الضروري استصدار مذكرات الإعتقال ضد نتنياهو وغالانت نظرًا لتوافر الشروط أو الظروف المحددة في المادة المذكورة. لكن صدورها لا يعني إدانة في المعنى القانوني

ولا يحتّم إصدار أحكام قضائية فيما بعد وفقًا للقواعد القانونية المنصوص عليها في نظام روما (المادة 61 والمادة 62) التي تمنع إجراء المحاكمات غيابيًا سوى بحق أشخاص تنازلوا هم بذاتهم عن الحضور أمام المحكمة أو تعذّر تحديد أماكنهم .

ولذلك فإن بعد صدور مذكرات إلقاء القبض أو الإعتقال بحق نتنياهو وغالانت، تعمد الأجهزة المختصة للمحكمة على تعميمها في كافة الدول حول العالم، كما يحق لها طلب التعاون من الإنتربول للمساعدة على تنفيذها، كونها لا تملك هي ذاتها وسائل تنفيذية تأتمر باوامرها مباشرةً. ولقد لحظ نظام روما آلية التعاون بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية في سبيل تنفيذ تلك المذكرات، حيث ألزم بموجب المادة 86 منه الدول الأطراف بالتعاون المطلق مع هذه الأخيرة، لكنه لم يبيّن ويحدّد بشكل صريح وجازم تبعات عدم الإلتزام، بل اكتفى بالإشارة في المادة 87 إلى ضرورة اتخاذ قرار من قبل المحكمة بإحالة الملف لمجلس الأمن ( إذا كانت الدعوى قد أحيلت من قبله إلى المحكمة للتحقيق فيها) أو جمعية دول الأطراف المصادقة على نظام روما لكي تتّخذ المقتضى القانوني المناسب. لكن التطبيق العملي لهذه المواد لا يُنذر بنتائج مشجّعة، فهناك سوابق في هذا السياق أظهرت هشاشة تداعيات عدم الإلتزام.  فسبق لدولة الأردن أن استقبلت الرئيس السوداني السابق عمر البشير في الوقت الذي كان بحقه مذكّرة اعتقال صادرة عن المحكمة الجنائية ولم يتم القبض عليه من قبل السلطات الأردنية، فما كان من المحكمة إلا إصدار قرار بعدم احترام هذه الأخيرة إلتزاماتها اتجاه المحكمة وإخطار مجلس الأمن بذلك دون اتّخاذ أي إجراء قانوني أو سياسي بحق الأردن فيما بعد. في ذات السياق نرى الرئيس الإتحاد الروسي فلاديمير بوتين قد زار دولة منغوليا المصادقة على نظام روما ولم تعتقله رغم وجود مذكّرة إلقاء قبض بحقه صادرة عن المحكمة. مما يعني أنه حتى لو أعلنت الكثير من الدول إلتزامها بتنفيذ قرارات الإعتقال كما فعلت فرنسا وهولندا والسويد وكولومبيا وغيرها، فإن دولًا كثيرةً بالمقابل ستمتنع عن التنفيذ متسلّحة بالغطاء السياسي الذي سبق وشكّلته الولايات المتحدة الأميركية، الداعم الأكبر للعدو الإسرائيلي، عبر رفضها وشجبها لهذه المذكرات.

لذلك  فإن تنفيذ مذكرات الإعتقال بحق نتنياهو وغالانت تبقى محكومة بتوازنات وضغوطات سياسية ، مما يعني أن الجانب السياسي سيُهيمن بسطوته ونفوذه على الجانب القانوني لمنع التنفيذ. والنتيجة ستكون عبارة عن تقارير إضافية ستُضاف إلى أرشيف المحكمة المُثقل أصلًا بالتقارير الصادرة عن مكتب جمعية الدول الأطراف الذي يتضمّن توصيات بضرورة التعاون من جهة وإحالات إلى مجلس الأمن من جهة أخرى، مع الإشارة إلى أن هذا الأخير يضمّ بين أعضائه ثلاث دول دائمة العضوية لم توقّع على نظام المحكمة الجنائية الدولية وهي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين!

أما بالنسبة للدول غير الأطراف في المحكمة، فهي غير ملزمة دوليًا بالقرارات الصادرة عنها. حيث أن نظام روما هو بمثابة معاهدة إختيارية يبقى للدول حق الخيار بالمصادقة عليه والإلتزام ببنوده وفقًا لما تقتضيه مصالحها. وبالتالي لا يمكن إلزام أي دولة قررت سابقًا عدم الإنضمام للمحكمة بتنفيذ قرارات الإعتقال إلا إذا ارتأت فعل ذلك من تلقاء نفسها. وهذا يعني أنه لا يمكن قانونًا إجبار إسرائيل على تسليم قادتها المطلوبين كونها لا تعترف بالمحكمة باعتبارها لم تصادق على نظام روما.

لكن رغم كل ما سبق، يمكن القول بأن مذكّرات الإعتقال شكلّت دفعة معنوية كبيرة على صعيد العالم وكشفت همجية ووحشية قادة إسرائيل أمام الرأي العام العالمي. يكفي أن يقول أحد معارضي نتنياهو بأنهم دخلوا الحرب والعالم كله معهم واليوم يشهد هذا العالم على إدانة أفعالهم، كما هل يمكن لقادة العالم أن تصفّق مرة أخرى  لنتنياهو في مقرّ الأمم المتحدة بعد هذه القرارات كما فعلت سابقًا!.

ومن هنا يقتضي التشجيع على ضرورة توثيق الجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحق الشعبين اللبناني والفلسطيني، بهدف حثّ مدعي عام المحكمة الدولية على إجراء التحقيقات اللازمة والطلب من الدائرة التمهيدية إصدار مذكّرات اعتقال إضافية، فالعمل على تراكم هذا النوع من المذكرات يُشكّل خرقًا في السياق القانوني من شأنه إحراج الدول المؤثرة في العالم ودفعها للمضي قُدمًا في تطبيق القانون الدولي والإنساني بحق إسرائيل.

للانضمام إلى مجموعات “الجريدة” على “واتس آب” إضغط على الرابط

https://chat.whatsapp.com/GsVKY7K10Ps5CnREsooVzZ