| جورج علم |
إقحام لبنان في “محور الممانعة”، كجبهة مساندة، ينطوي على كثير من المغامرة التي تحاكي “المؤامرة” من حيث النتائج والتداعيات الكارثيّة.
يصف الصالون الدبلوماسي “الإقحام” بأنه “خطأ إستراتيجي”، يرتّب تبعات مصيريّة على لبنان كوطن وكيان.
توصفه الحاضنة العربيّة، على أنه “محاولة إغتيال متعمّد”، وإلاّ كيف يزجّ بوطن يسكنه الفراغ المؤسساتي، ومفكك الأوصال الوطنيّة، وضعيف الإمكانات الإقتصاديّة، في مشرحة تغيير الخرائط؟! ومع كلّ يوم يطلّ، ولا يحمل إنبلاج فجره وقفاً لإطلاق النار، يعني أن مدماكاً ينهار من الهيكل المتداعي، ويقرّب المسافة من حافة الإنهيار والزوال.
وُضع لبنان، رغماً عنه، في مقصورة القطار السريع المتجه نحو المحور المفخّخ بنَهَم المصالح، والمتفجّر بصواعق الهيمنة. وليس لغاية الآن من أساس واعد يبنى عليه. المؤشرات كارثيّة. قائد “الحرس الثوري” الجنرال حسين سلامي يقول أمام “رجال دين متنوّرين” في طهران: “جرى إعادة بناء حزب الله، رغم الخسائر وفقدانه عديداً من قياداته في هجمات إسرائيليّة على لبنان منذ أسابيع”. الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم يقول: “ماضون في المعركة، إلى أن يطلب بنيامين نتنياهو وقفاً لإطلاق النار”. نتنياهو يقول: “ماضون في التدمير والتهجير إلى أن يتحقّق كل ما نريده من أمن وإستقرار”!
أما لبنان الرسمي، أو ما تبقى منه، متشبث بموقفه القائم على ثلاثيّة ثابتة: “وقف إطلاق النار. وضع القرر 1701 موضع التنفيذ. إرسال الجيش إلى الجنوب”.
المشكلة أنه يعرض بضاعته، وما من هاو أو “زبون”. ينادي، وليس من مستجيب. الإدارة الأميركيّة تحولت إلى “بطة عرجاء” خلال ما تبقى لها من ولاية في البيت الأبيض. الرئيس المنتخب دونالد ترمب بشجّع نتنياهو خلال إتصال التهنئة على “تنفيذ كامل مخططه بالقوّة”. الروس منشغلون بإنتشار 12 ألف جندي كوري شمالي في مقاطعة كورسك الروسيّة، لمواجهة الجيش الأوكراني، مبتغاهم حماية هذه القوات من “صيبة عين” أميركيّة ـ أوروبيّة ـ أطلسيّة. الصين تتفقد يوميّاً سلامة الناقلات العملاقة التي تنقل النفط السعودي ـ الإيراني ـ الخليجي إلى أسواقها الإستهلاكيّة. أوروبا عاجزة، تقول ولا تفعل، تحاول ولا تستطيع، حالها كحال فرنسا التي تكثر من الإجتماعات، وتفعيل المبادرات، لكن “إسمع تفرح، جرّب تحزن”!
وحده مفتي الجمهوريّة اللبنانية، الشيخ عبد اللطيف دريان يستنفر القيادات والفعاليات للوقوف إلى جانب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لشدّ أزره. ووحده الرئيس ميقاتي يقف على جبل المرسيّات، يناشد المجتمع الدولي لوقف حرب الإبادة. يحاول أن يوقظه من نومه العميق، يدعوه للخروج من سباته ولا مبالاته، ويبلغه بأن ما يرتكبه نتنياهو بحقّ لبنان واللبنانيّين، إنما هي جرائم حرب ضدّ الإنسانيّة. يؤكد على وجوب وقف النار، وتنفيذ القرار 1701، ولكن ما من مجيب. وحده الشيخ نعيم قاسم يبلغه مواربة، وعبر الإطلالة الأخيرة، بأن “على إسرائيل أن تبادر إلى وقف إطلاق النار، وعندها، نحن على إستعداد للخوض بمفاوضات غير مباشرة حول مواصفات اليوم التالي في الجنوب”. لم يأت على ذكر القرار 1701، تجاهله تماماً، تذكّر “الرئيس برّي، مفاوض المقاومة” حتى لا يوفّر فرصة أمام المصطادين في الماء العكر، يستغلّونها لزرع إسفين في جذع التماسك الثنائي.
ومع تصاعد غبار المواجهات، ودخان القصف، تطلّ غيوم داكنة عند الأفق اللبناني، بعدما حوّلوا “مرقد العنزة” إلى مرقد لثقافة الحياة! وحده العدّاد شغال، يشير إلى عدد المجازر، وأعداد الضحايا، والجرحى، والمعطوبين، والمكلومين. وحده العدّاد يحصي أعداد النازحين في العراء، والهاربين من “الغضب الساطع”. وحده العدّاد يجوب بين القرى، والبلدات، والمدن، والأحياء المدمّرة. وليس عنده بعد من رقم دقيق، يبنى عليه!
“لا نريد العودة إلى السجال حول الأسباب والدوافع”. يقول الشيخ نعيم قاسم. “نريد الوقوف في حضرة الواقع، إنها حرب إسرائيل على لبنان، ولا خيار أمامنا سوى المواجهة”. لكن ماذا عن المستقبل، وبنيامين نتنياهو يتحدث عن بنك من الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها بالصواريخ والقنابل من زنة الـ2000 رطل، فيما اليمين المتشدّد الذي يشد أزره، يطالبه المضي بمخطط تغيير الخرائط.. ورسم ملامح حدود “إسرائيل الكبرى”؟
ما نصيب لبنان من “كعكة” تقاسم المصالح؟
أمام العجز المحلّي الرسمي، والسياسي، يقف لبنان عرياناً عند مفترق التقاطعات الإقليميّة ـ الدوليّة. تحول إلى خط تماس لصراع المحاور. يدفع من بشره وحجره أثماناً باهظة خدمة لمصالح الآخرين. حدوده مشرعة، أرضه مستباحة، قراره مصادر، أوصاله مفككة. مؤسساته تسكنها الوحشة ويملأها الفراغ. قد يكون مؤهلاً، عندما يكتمل عقد التسوية الكبرى، أن يطرح على الطاولة ـ المشرحة، كمساحة مهيأة لاستيعاب الكثير من الملفات الإقليميّة المعقّدة على حساب مستقبله ومصيره وسيادته، على ما يتبقى له من رقعة جغرافيّة.
هذا اللبنان الذي أُقحم في محور الممانعة، ووحدة الساحات، يبتلي اليوم بأكثر من مليون ونصف مليون نازح في العراء. يماثله رقم مواز من اللاجئين السوريين، ورقم أقل من الفلسطينيّين، وثلث من مساحة الـ10452 كيلومتراً مربعاً أرضاً محروقة، وعاصمة منكوبة عشقت فراغ المؤسسات، وحضنت نوعيات من السياسييّن الذين نهبوا أموال الشعب في السراء، وفي الضراء، تركوه شريداً، يفترش الأرض، ويلتحف السماء…
ومع دخول دونالد ترامب البيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني المقبل كرئيس للولايات المتحدة الأميركيّة، يكون صديقه، وحليفه، نتنياهو، قد أنجز الكثير من مشروع تغيير الخرائط، خصوصاً إذا ما ذهب بالمباشر إلى مواجهة إيران بحجة “إستئصال النووي”، عندها يرقص الشرق الأوسط على كفّ عفريت!