/ علاء حسن /
استشرف “حزب الله” مبكراً، خطورة الوضع المالي والاقتصادي في البلاد، وعارض السياسات الاقتصادية منذ بدايات دخوله المعترك السياسي. إلا أنه، ومنذ تحرير لبنان العام 2000، وإلى اليوم، لا تخرج المقاومة من معركة أو حرب لتقوم بترميم القدرات وتطويرها والتفرغ للملفات الداخلية، حتى يأتي للبنان تهديد جديد. بداية مع ملف مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وملف الأسرى، ومن ثم عدوان تموز 2006، وبعدها محاولة تطويق الحزب في 5 أيار 2008 وما تبعها من تداعيات، إلى الحرب السورية التي استدعت من “حزب الله” الذهاب لمقارعة “داعش” والنصرة” خارج الأراضي اللبنانية لمنعهم من التمدد نحو الداخل اللبناني، الذي أرسلوا إليه السيارات المفخخة، وخطفوا بلدة عرسال ومساحات واسعة من سلسلة جبال لبنان الشرقية، وارتكبوا مجزرة بحق الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي.
وعليه كان العام 2018 هو العام الذي شهد الإعلان الرسمي للحزب في مكافحة الفساد، حيث تم تكليف النائب حسن فضل الله بمتابعة الملف، ومعه فريق من المتخصصين في المجالات الاقتصادية والمالية والقانونية.
ومنذ المؤتمر الأول للنائب حسن فضل الله، كثرت التعليقات الساخرة لما بات يسمى “بملفات حسن فضل الله”.
المستهدِفون لهذا النهج الإصلاحي ليسوا في خندق واحد، فلكل غاياته.
منهم من شعر بالتهديد الفعلي من الدراسات المعمقة التي قامت بها كتلة الوفاء للمقاومة حول ملفات الهدر المالي الموجودة في الدولة اللبنانية، فسعى بكل جهده إلى عرقلة وصول هذه الملفات إلى خواتيمها.
ومنهم من رأى جدية “حزب الله” في خوض معركة الفساد، فأراد منع الحزب من تسجيل انتصار داخلي، على غرار انتصاراته العسكرية والأمنية طوال أربعة عقود من وجوده.
لكن هناك جملة من الإشكاليات ظهرت خلال السنوات الماضية، ترتبط بمقاربة الحزب في كيفية مكافحة الفساد المستشري في الدولة اللبنانية وهي:
أولاً- منذ انتفاضة تشرين عام 2019 والتحركات المطلبية التي حصلت آنذاك، سعى القائمون على التحركات لاختزال مفهوم مكافحة الفساد، وتغييب أي جهد سابق لهم في هذا الأمر، وهو ما اعتبره حزب الله مشبوهاً، فلو كان جاداً لكانت التحركات بُنيت على ما سبق من جهود، وليس وضع الجميع في الخانة نفسها.
ثانياً- كان واضحاً أن الأصوات المنادية بمكافحة الفساد، إما أنها تجهل الواقع، وإما أنها لم تحدد أهدافاً واقعية للأمر، وإما أنها غير مدركة لما تقوم به من هدم للدولة بدل إصلاحها. وقد تكون هذه الأخيرة هي الهدف!
ثالثاًـ بدا واضحاً أن المنادين بمكافحة الفساد، بدل أن يوجهوا سهامهم للفاسدين، وجهوا سهام الاتهامات إلى الساعي لمكافحة الفساد، وبدل دعم القضاء للحصول على استقلاليته ليتمكن من مواجهة الفاسدين، عملوا على إضعافه بشتى الأساليب الممكنة.
بيد أن للحزب رؤية مختلفة جديرة بالدراسة والتدقيق؛ فهو أولاً لا يريد هدم الدولة برمتها، فمن يريد الإصلاح لا يهدم، لما لكلفة إعادة البناء من أثمان باهظة سيدفع ثمنها، ليس فقط الجيل الحالي، بل أجيال مستقبلية ستنمو على الركام، وستنالها التشوهات العلمية والأخلاقية والقيمية التي ستمنع بذاتها نهوض البلد لعشرات السنوات القادمة، وبالتالي يشعر “حزب الله” بالمسؤولية ذاتها التي تجعله يكافح الفساد من أجل لبنان واللبنانيين، فيصبح في نفس الوقت معنياً بالحفاظ على الدولة.
ثم إن لـ”حزب الله” منطلقات شرعية وأخلاقية ووطنية لا يستطيع تجاوزها. وعليه، لم تستفزه جميع المحاولات التي سعت إلى طرح الملفات التي يمتلكها على الإعلام، لأنه أولاً مدعياً وليس قاضياً، ولا يستطيع التشهير بالفاسد لأنه يعتقد أنه فاسد، بل يصبح قانوناً فاسداً عندما تحكم المحكمة بفساده، وهو بذلك لا يستطيع تجاوز هذه العقبة الشرعية والقانونية، ولو فعل لكانت السهام ستأتيه من كل حدب وصوب بتهمة تجاوز الدولة والقضاء والحكم على الناس بالفساد.
من جهة أخرى، يدرك الحزب جيداً أن البلد طائفي حتى نخاع العظم، ولن يتمكن من تمرير مشاريعه الإصلاحية من دون المساس بمكتسبات الطوائف، وليس ملف الوكالات الحصرية الدليل الوحيد على ما واجهه من تحديات جدية في الأمر.
إلى ذلك، فإن الحزب وصل إلى قناعة أن مقولة “حامي الفاسدين” ليست سوى شماعة لدق الإسفين مع الحليف الأخضر، وبغض النظر عن حقيقة إدانة شخصيات في حركة “أمل” بالفساد، وبصرف النظر عما سيستتبعه ذلك من مشاكل جمة داخل البيت الشيعي، لكن من سيتحمل حكم التاريخ إذا كتب أن الفاسدين في لبنان كانوا الشيعة؟ وأن الحل باستبعادهم عن منظومة الإدارة والحكم؟
ففي حين أن الفاسدين في لبنان محميون من ملوك الطوائف، ومن الدولة العميقة، ومن الامتدادات الخارجية، وإن أي تحرك ينبغي أن يقيس التوازنات الداخلية والإقليمية، يبقى الأمل الوحيد لمكافحته جيداً هو عقد اجتماعي- طائفي جديد، يرفع الغطاء عن الفاسدين، ويعيد الأموال المنهوبة.
وحتى ذلك الحين، لا تهم الأرقام وأعداد الدعاوى والشكاوى والطلبات، رغم ما تكتنزه من أهمية، لكن تبقى الأهمية للإرادة الجادة الساعية إلى بناء دولة قوية لأن فيها من يحمي، وقوية لأن فيها من يريد أن تُبنى على أسس خالية من الفساد.