| ابراهيم الأمين |
هل أنت مجنون لتقاتل أميركا؟
هي عبارة دأب كل رافض لمبدأ المقاومة على استخدامها في معرض تبرير استسلامه لإرادة أميركا وليس لإدارتها فقط. من يعمّمون هذا النموذج من الفعل الدوني لا اسم لهم سوى أنهم عملاء للأميركيين، ليس فقط بسبب استسلامهم، بل لأنهم يعرفون أن بقاءهم رهن قيامهم بدعوة الآخرين إلى الاستسلام. لذلك يتطوّعون لترهيب كل من يعارض الولايات المتحدة بأن ما ينتظره هو الموت قتلاً أو جوعاً أو نفياً. لكنهم، وهم يفعلون ذلك، لا يتحدثون عن القاتل، ولا عن مسؤوليته عن فعل القتل، بل يحمّلون الضحية مسؤولية موته لأنه لم يستمع إلى النصيحة، فسار الى نحبه راضياً مرضياً.
يقول هؤلاء لنا: لا تقاوموا أميركا لأن عقابها سيكون شديداً وقاسياً. ويستدلّون على الكلفة الباهظة لمقاومة الإرادة الأميركية والأوروبية بالإشارة إلى سوء أحوال دول وشعوب ركبت هذا المركب. ومن دون أن يسألهم أحد، يوغلون في الشرح: ستُحرمون من الحياة الكريمة، وسيُفرض عليكم حصار مالي واقتصادي، وسيُمنع عنكم أي نمو وازدهار، وسيتم إخراجكم من دورة الاقتصاد العالمي، ولن تحصلوا على علم جيد، ولا على خدمات صحية، ولن تكون لديكم مرافق عامة جيدة، وستُعزلون فلا يزوركم أحد ويُمنع عليكم السفر.
وهؤلاء العملاء، عندما يشيرون إلى بلاد أنهكها الحصار الأميركي، كسوريا والعراق وإيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا وغيرها، يعودون فوراً إلى انفصامهم، ويتهمون أهل هذه الدول بأنهم سبب هذه المصائب.
ما الذي يمكن أن يقوله المرء لهؤلاء؟
كيف لك أن تهددني بحرماني من حقي في الحياة إن خالفت الرغبة الأميركية، ثم تتهمني بأنني مسؤول عن الكوارث التي تصيب بلادي بسبب الحصار الأميركي. هل سأل هؤلاء مرة واحدة عن حجم الأموال التي سرقتها أميركا من كوبا وإيران مثلاً؟ هل يعرفون ما الذي كان يمكن لهذه الأموال، وهي ملك لشعبَيْ إيران وكوبا، أن تفعله في مجال تطوير القطاعات العامة فقط؟.
ما يقترحونه علينا فعلياً هو أن نحلم بحياة كالتي يعيشها أهل محميّات الخليج، لكنهم يدعوننا فعلياً إلى أن نعيش كأهل الأردن ومصر والمغرب، حيث الحكم لطغاة ممنوع انتقادهم، والغرق في اقتصاد ريعي، وألا نفكّر في أي نوع من الاقتصاد المنتج. وعندما نقع تحت الضغط، ونسأل عمن يمدّنا بالأموال على شكل ديون، يقولون لنا إن أي برنامج إقراض مالي للبنان، من قبل صناديق عالمية أو إقليمية أو عربية، لن ينجح إلا في حالة تخلصتم من المقاومة، قبل أن يسارعوا إلى مقايضة ما نملكه من أصول في هذه الدولة مقابل فوائد هذه الديون فقط. أليس هذا ما هو قائم الآن في مصر والأردن والمغرب، حيث التحالف الوثيق مع أميركا والعلاقة العادية مع إسرائيل؟
أما إذا حاولنا الحصول، بطرقنا الخاصة، على بعض الدعم لإنتاج كهرباء للإنارة فقط، فيهددوننا بعقوبات تصيب قطاعات أخرى، ويقولون لنا: ممنوع عليكم الحصول على نفط من أي دولة في العالم إلا بموافقتنا، وسنعاقبكم بحرمانكم مما تبقّى معكم إذا تجرأتم وأخذتم دعماً من دول معارضة لأميركا. والأمر هنا لا يتعلق بإيران فقط. بل قالوا ويقولون لنا بفجاجة: إذا فكرتم بالحصول على دعم صيني لشبكة الاتصالات مثلاً، فستواجهون عقاباً شديداً. فهل تقف الصين في محور المقاومة ضد إسرائيل، وهل هي منخرطة أساساً في أي نوع من القتال مع أميركا؟ كما يمارسون ضغوطاً على العراق لوقف مدّنا بالفيول لإنتاج بضع ساعات من الكهرباء. ويقول الأميركيون علناً إن أي دعم سيأتي إلى لبنان، سيكون وفق رغبتهم، وسيُنفق حيث يقررون هم.
حتى الجمعيات الخيرية التي كانت وسيلة لمساعدة الشعوب الفقيرة تمّ حصرها بيد الدول فقط.
ها هي التجربة مع قطر. مسموح لها توزيع المساعدات، لكن من دون أن تختار الجهات المدعومة، وإنما التزام البرنامج الأميركي الخاص في لبنان، وأن يقتصر دعمها على الجيش اللبناني فقط. صحيح أن أحداً لا يعارض دعم الجيش، لكن من غير المسموح لقطر أن تقوم مثلاً، بإنشاء أو امتلاك معامل لإنتاج الطاقة الكهربائية العاملة على الغاز، إلا في إطار برنامج سياسي جديد في لبنان، أساسه نزع سلاح المقاومة. ويسمحون لقطر بعرض المغريات على من يسير في انتخاب رئيس للجمهورية ترضى عنه أميركا. والقطريون أنفسهم لا ينكرون هذا الأمر. ومن يسألهم، يجيبونه بصراحة كاملة: لا يمكننا مقاومة الضغوط الأميركية. وإذا جرّب البعض إحراجهم فإنهم يشيرون إلى تجربتهم في فلسطين: كل الأموال التي كنا نرسلها إلى قطاع غزة، كانت بعلم وموافقة الأميركيين (والإسرائيليين) أولاً وأخيراً. حتى استضافتنا لقيادة حماس، وإن كنا نقبل بها، إلا أنها لم تكن لتكون لولا موافقة أميركا.
أما السعودية والإمارات والكويت فهي دول صارت في عالم آخر، ولدى حكامها الجدد حساب طويل مع لبنان. ومن يدقق، فسيتاح له الاستماع إلى أمور لا يريد أنصار أميركا إخراجها إلى العلن رغم أنها شديدة الوضوح، وقد اختصرها كبير السحرة عندهم. فقد تحدّث محمد بن سلمان ذات مرة لأحد الوسطاء بصراحة كبيرة: لقد أنفقنا عشرات المليارات في لبنان، سرقها السياسيون، وفي مقدّمهم من كانوا يعملون معنا. وعندما حاولنا الحصول منهم على مقابل بسيط، على شكل دعم في معركتنا ضد إيران وأنصارها، ابتعدوا هاربين من ساحة المعركة. نعرف أن معهم الكثير من الأموال، فلماذا يريدون منا المزيد ولا يريدون إنفاق القليل في بلدهم؟ لينهي ابن سلمان مطالعته ساخراً: لا حاجة إلى أن يطلب الأميركيون منا عدم مساعدة لبنان، فنحن أصلاً لم نعد نشعر بالحاجة إلى هذا البلد. هو كدولة لا يفيدنا في شيء، وما قد نحتاج إليه، هو خدمات بعض اللبنانيين، ونحن نتعامل معهم كأفراد. ولدينا المغريات المالية الكبيرة لاستقطاب من نريده. وشرطنا واضح ومحدد: أنت تعمل عندنا، وليس معنا فقط.
ولا يخفي حكام الجزيرة أيضاً أن وقف كل أشكال الدعم للبنان مرتبط أيضاً بالبرنامج السياسي الأميركي. في الكويت، نشأت حالة انعزالية غير مسبوقة، أضعفت موقعها حتى بين دول الخليج، وهي سياسة جعلتها خارج المعادلة. بل إن حكامها يعرّضون استقرارها السياسي والاجتماعي للخطر، بسبب الانصياع الأعمى لما تريده السعودية.
أكثر من ذلك، فإن دولاً مثل السعودية والكويت ألغت كل الاستثمارات في لبنان، وما وضعه أثرياء الجزيرة من أموال في مصارف لبنان، عاد عليهم بعائدات هائلة، وعندما وقعت الأزمة، نجح بعضهم في سحب أمواله، بينما خسر منهم ما خسر، مثل بقية المودعين. أما القصور وبيوت الضيافة فلم تعد من حاجة إليها، إذ إن الأجيال الجديدة في محميات الخليج باتت لديها وجهات أخرى غير لبنان، سواء للسياحة أو التعلّم أو الاستشفاء. وما تنفقه هذه الدول في لبنان اليوم يقتصر على ما يخدم البرامج السياسية، لكنه يخدم أكثر البرامج الأمنية لهذه الدول.
أكثر من ذلك، هل يعرف أحد أن حاكماً مثل محمد بن زايد لا يجد حاجة إلى أن يكون هناك سفير لبلاده في لبنان؟ فقد أجرى الرجل مع فريقه الأمني والسياسي مراجعة شاملة قبل نحو عامين، وخلص إلى أن ملف لبنان ليس من اختصاصهم إلا عندما تفرض الولايات المتحدة ذلك، وبما لا يغضب السعودية على وجه التحديد. ولجأت حكومة أبو ظبي إلى اعتماد استراتيجية من نوع مختلف. فهي لا تتخذ موقفاً محايداً، بل هي إلى جانب إسرائيل في الصراع القائم، ولديها مخاوف كثيرة من تعرّض مصالحها للخطر في بيروت، وهي، مثل السعودية، تعتبر أن ما تحتاج إليه من لبنانيين يمكنها استقطابه، وإدارته بالطريقة التي تريدها، ووفق القوانين التي تسنّها، حيث يُمنع على أي لبناني التحدث بالسياسة أصلاً، ومن يتحدّث يفعل ذلك بصوت خافت، أما من يخرج إلى العلن، فيجب أن يكون مأذوناً له بذلك، وهو أصلاً لا ينطق بخلاف ما تريده هذه الدولة. وإذا ما سألت اللبنانيين هناك حول كيفية تعايشهم مع هذه الدولة البوليسية يكون الجواب جاهزاً: هذه قوانينهم، إما أن تحترمها أو تغادر البلاد. ولكن، ماذا عن عشقكم للحرية والتعبير، وهل لديكم الحق بالتضامن مع أهلكم في لبنان؟ يأتي جوابهم بما هو أكثر مأساوية: أي دعم، يجب أن تعرف به الدولة الإماراتية، ومن يريد أن يرسل الأموال مثلاً، ولو إلى جهات غير معادية للإمارات، فعليه أن يأخذ الإذن أولاً، وأن يفعل ذلك من دون المرور بالأدوات المصرفية الإماراتية. لكنّ هؤلاء أنفسهم يسارعون إلى إغراقنا بالحديث عن دولة متقدّمة أكثر من أميركا وأوروبا، كل شيء فيها يسير بتقنيات شديدة التطور، وحيث يمكنك أن تأكل وتشرب وتسكن وترفّه عن نفسك، وتتحدث عن أنواع السيارات والعطور وأفلام الأكشن… وحيث لا شأن لك بما يحصل في العالم، فلماذا تتعب نفسك بمشاهدة القتل في غزة أو لبنان… «شو بدك بالسياسة”!.
قبل نحو عامين، تحدّث الأكاديمي المحترم، سمير المقدسي، عن رغبة الإمارات بجذب الكوادر الأكاديمية اللبنانية لتدريس العلوم الإنسانية، وكان جوابه: كيف لك أن تعطي دروساً في علم السياسة والاجتماع والنفس والأدب في دولة ممنوع فيها التفكير من أصله؟
جماعة أميركا يعرضون علينا خيار دول الخليج كنمط للحياة، وهم يعرفون أن هذا مستحيل حيث لا نفط عندنا ولا غاز، لكنهم يتجاهلون أن ما يعرضونه علينا في الحقيقة، لا يتعدى نماذج الأردن أو مصر أو المغرب، حيث الحكم يديره طغاة، وحيث لا معنى أيضاً، لفكرة الحرية التي يتغنّون بها، وحيث الحياة تستمر جيدة للفاسدين من أهل الحكم، وعادية عند أزلامهم في المؤسسات العامة والخاصة، أما بقية الناس فلهم أن يرقصوا عند حافة الفقر.
هذا هو “يومهم التالي” الذي يريدون لنا أن نفكر فيه الآن.
ما يجب أن نعرفه نحن أولاً، يعرفه هؤلاء تالياً، هو أننا نعيش «يومنا الحالي» مع المقاومين في كل نقطة عند الحدود أو في العمق، وأن ما نهتم له، من أجل مستقبل نحفظ فيه حقنا في الحرية، وننتزع فيه حقنا بالحياة الكريمة، هو أيضاً رهن ما ننجزه في «يومنا الحالي»، حيث تدور معركة المقاومة الطويلة!