| جورج علم |
تدافع فرنسا عن آخر شرفة لها في الشرق الأوسط. ليس لديها لبنان آخر في المنطقة إلاّ هذا الذي تحاول المستحيل ليبقى واجهة حضاريّة، منصّة فرنكوفونيّة، وشبكة مصالح. إنسحبت من معظم دول إفريقيا بعدما تحجّم الدور، لا تريد أن تخسر هنا ما خسرته في القارة السمراء، المنطقة حيويّة بالنسبة لها، ولبنان هو حديقة مصالح، وجسر العبور.
حاولت مراراً وتكراراً أن تلعب دور المنقذ، لكن النتائج لم تأتِ على قدر الطموحات، الملعب ضيّق، والمتنافسون كثر، كلّ يحاول أن يحجز مكاناً، ويختار زاوية، ويسدّد من خلالها أهدافه، فتضاعفت “الفولات”، وحاول الأميركي أن يلعب دور “الحَكَم” فكشفته الممارسات، وتبين أنه الفريق المنحاز، النهم، والمتغطرس، الذي يبدأ بفرض العقوبات، ولا ينتهي إلاّ بفرض الخيارات.
حصلت أخطاء كثيرة ليس الأوان للتوقف عندها، لكن ما يجري راهناً على أرض الملعب اللبناني يحمل خيبات من حرب تموز 2006، يومها كان العنوان “توازن الردع”، فيما كان الإختلال في التوازن الداخلي ناشطاً، وعلى كافة المستويات، فتحوّل الوطن، المجوّف سياسيّاً وماليّاً وإقتصاديّاً، إلى خط تماس في معارك لا ناقة له فيها ولا جمل بين محاور متنافسة على إقتسام المصالح في الشرق الأوسط الجديد.
ودّعتنا وزيرة الخارجيّة الأميركيّة، آنذاك، السيدة كونداليزا رايس في آب 2006 بوديعة أمميّة، هي القرار 1701، قالت يومها إنه من “لوازم” الشرق الأوسط الجديد، وتبيّن بحكم الممارسة أنه مجرّد هدنة بين حربين، وليس وقفاً لإطلاق النار قابلاً للحياة والديمومة.
بالأمس القريب، عمّت الإحتفالات الملحميّة بعض أنحاء المنطقة إحتفاء بمرور عام على “طوفان الأقصى”. لكن لم تتضح لغاية الآن، معلومات كافية عن هذا “الطوفان”. ما الغرض منه؟ ما هي الأبعاد، والخلفيات، والمكتسبات المرجوّة؟ ثم من خطّط له، وأعدّ العدّة، وموّل، ورسم البدايات، والنهايات؟ الولايات المتحدة تقول إنها تعرف، ولكنها تتكتّم. إيران تقول إنها فوجئت بالتوقيت، و”فوضى” الإخراج، فيما تمضي بحياكة السجادة بتأن، وبرودة أعصاب. “إسرائيل” تمظهرت بمظهر “الضحيّة”، وساعدها الغرب الأوروبي ـ الأميركي على “تقمّص” هذا الدور. العالم العربي دهشته المفاجأة، “طوفان” في عزّ فصل الخريف؟! لا الزمان زمانه، ولا المكان يتّسع لفيضه، ولا القضيّة تنتصر على ضفاف عواصفه، ورعود زمهريره. فكان… ولا يزال الجمبع ينتظر خبر كان!
لا أحد يريد نزع البرقع عن الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لماذا تحوّل الجنوب إلى “جبهة مساندة” لغزّة و”حماس”، فيما الجبهات العربيّة، وعلى إمتداد “دول الطوق” لـ”إسرائيل”، تتثاءب ما بين التطبيع و”التطييع”؟ ويأتي جواب من ماضٍ مضى”لوووه.. مبارح كان الجنوب فتح لاند.. وعرقوب.. وجبهة مشاغلة لفلسطين، ومسرح خيل أبو عمّار.. الآن إحمرّت العيون لأن سماحة السيّد الشهيد، أراده أن يكون جزءاً من محور الممانعة”!
ليس بالقليل أن يكون الجنوب، الجزء الحيوي من لبنان الكيان، جزءاً متماهياً مع “محور الممانعة”. لا الفصل ممكن، ومباح، ولا الجمع بين المتناقضات سهل ومتاح، ولبنان الذي إنتقل مع الطائف من معادلة “ذو وجه عربي” إلى “عربي بكامل المواصفات” ما كان يوماً أعجميّاً، أو فارسيّاً، أو إيرانيّاً، بل إرتضى لنفسه أن يكون واحة حريّة، وحديقة ثقافيّة، وواجهة سياحيّة، خدماتية. هذا اللبنان تريده فرنسا، وتتحرّك للذود عنه قبل فوات الأوان.
إنها الوحيدة بين الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن، تخصّص قدراً من الإهتمام، وتجنّد فريقاً دبلوماسيّاً لمتابعة مستجداته الميدانيّة، والسياسيّة، والإنسانيّة. إنها الوحيدة التي تمكّنت من إنتزاع موافقة الرئيس الأميركي جو بايدن على البيان الخاص الداعي إلى وقف فوري لإطلاق النار، وهدنة لثلاثة أسابيع تكون كافية لإطلاق مسار تنفيذي للقرار 1701. إنها الوحيدة التي دعت مجلس الأمن إلى الإنعقاد مرّتين لتحمّل مسؤولياته، ومنع إتساع الحرب في المنطقة. إنها الوحيدة التي دعت إلى مؤتمر دولي خاص من أجل لبنان في 24 الجاري.
لا تتحمّس فرنسا لمشهد العلم الإسرائيلي مرفوعاً ضمن النطاق الجغرافي لبلدة “مارون الراس”، ولا بالرموز المستوردة المرفوعة بالمقابل على طول الطريق المؤدي إلى مطار بيروت الدولي. إنها تستدرج الأمم المتحدة، ومجلس الأمن لحياكة معطف الحماية. لبنان بالنسبة لها ليس مالي، ولا روندا، لكي تنسحب. والـ700 ضابط وجندي فرنسي الذين يعتمرون القبعات الزرق، أمام إمتحان إختباري، يحاول الكيان الإسرائيلي التصويب بإتجاه قوات “اليونيفيل”، لإحراجها، تمهيداً لإخراجها. لا يريدها بنيامين نتنياهو في الجنوب، لا يرتاح إلى دورها، وحضورها، والمهام الموكولة إليها، يريد الجنوب فراغاً، وحقل إستثمار طبقاً لبنك أهدافه، من هنا تنشط باريس على مستويات عدّة، لتدارك الخطر، معتبرة أن التصويب على رجال القبعات الزرق إنما هو تصويب مباشر على هيبة ومكانة المؤسسات الأمميّة المرموقة، ودورها في حفظ السلام العالمي.
يتحدّى بنيامين نتنياهو الدور الفرنسي المتعاطف مع لبنان. يتحدّى الأمم المتحدة، ويستهدف “اليونيفيل”، ويضع المصداقيّة الأمميّة على المحك، فهل تقبل المنظمة الدوليّة التحدّي، وترد على الصاع الإسرائيلي بوضع القبعات الزرق تحت أحكام الفصل السابع، لتنفيذ الـ 1701 بالقوّة؟