| علي حيدر |
نجحت إيران في مفاجأة أعدائها وأصدقائها على السواء، عندما أمطرت الكيان الإسرائيلي بنحو مئتَي صاروخ بالستي، ردّاً على اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ«حركة حماس»، إسماعيل هنية، والأمين العام لحزب الله، السيّد حسن نصر الله، ومسؤول ملف لبنان في «قوة القدس» التابعة لـ«حرس الثورة الإيرانية»، عباس نيلوفروشان، خلافاً للانطباعات التي نسجها بعض المحلّلين ووسائل الإعلام حول الردّ. وشملت هذه المفاجأة أصل قرار الردّ والإعداد له، فيما عزّز من وقعها الصمت غير المعتاد الذي ساد طهران قبيل العملية، والذي أوحى بأن الاختلافات داخل المؤسسة أدّت إلى تعطيل القرار.
كما أن ممّا عزّز من تأثيرها أن إيران تعمّدت إضفاء قدر من الغموض على قرارها النهائي، بينما بدت الجمهورية الإسلامية، مع انطلاق صليات صواريخها المتتالية، أكثر شبهاً بهويّتها وموقعها، وأنها على قدر متطلبات دورها في المنطقة.وهكذا، كشف الرد الإيراني الثاني – بعد الرد على استهداف القنصلية الإيرانية في سوريا -، عن عقم التقدير الاستخباري الاستراتيجي الإسرائيلي، لناحية فهم واقع إيران، واستشراف خياراتها في مواجهة التحولات التي توالت بفعل الاندفاعة الإسرائيلية بغطاء ودعم أميركيين. إذ بدا أن استخبارات العدو فشلت في تقدير نيات النظام، والتقاط مؤشرات إلى تحضيراته، إلى أن نبهّتها الولايات المتحدة قبل ساعات من الهجوم الذي نزل كالصاعقة على قادتها. وممّا يمنح الرد الإيراني أهمية إضافية أنه أتى بعد سلسلة تهديدات ورسائل وجّهتها كل من واشنطن وتل أبيب إلى طهران بعدم استهداف إسرائيل، فيما تُرجمت تلك التهديدات عملياً عبر تعزيز القوات الأميركية في المنطقة. إلا أن كل ذلك لم ينجح في ثني إيران عن قرارها، الأمر الذي كان كفيلاً بتبديد محاولات ردعها، وتعزيز صورة الردع الإيراني، في المقابل، في مواجهة «الجنون» الإسرائيلي.
وبالتالي، تجاوزت مفاعيل الرد الإيراني أهدافه العسكرية المباشرة، إلى ما هو أهمّ وأشد خطورة بالنسبة إلى الطرفين، في مجالات الردع والموقع والدور.
والواقع أن قرار الردّ تبلور في ضوء التجاذب بين قراءتين للمخاطر التي تحملها تطورات بيئة طهران الإقليمية، من البوابة الفلسطينية – اللبنانية. فقد رأى بعض أعضاء مجلس الأمن القومي الإيراني أن إسرائيل مصممة على نزع أوراق قوة إيران، ولذلك ذهبت بعيداً في مواجهة حزب الله، وصولاً إلى اغتيال أمينه العام.
كما يرى هؤلاء أنه في حال عدم لجم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، فإن هذه الحرب وتداعياتها ستطاول إيران، ولذا، «ينبغي أن نذهب إليها قبل أن تصل إلينا». في المقابل، رأى طرف آخر، بحسب تقارير إعلامية، أن نتنياهو يسعى إلى توسيع الحرب لتشمل إيران من أجل استدراجها إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
وفي ضوء ما تقدم، فإن ضبط النفس هو فعل استراتيجي يفوِّت على إسرائيل سعيها لخلق الظروف المناسبة لشن هجوم على الجمهورية الإسلامية يستهدف منشآتها الحيوية، ومن ضمنها النووية.
لكن في نهاية المطاف، تم حسم الموقف لمصلحة الردّ بالطريقة والمواصفات التي شهدناها، وهو ما شكّل مفاجأة استراتيجية فعلية لجميع الأطراف، وتحديداً واشنطن وتل أبيب والعواصم الأوروبية. ومردّ المفاجأة، تحديداً، أن إيران بادرت إلى خيار عملياتي ينطوي على مخاطر فعلية تتمثل في إمكانية التعرض لردّ مضادّ، قد يدفعها إلى الرد مرة أخرى، وهو ما لا تُعلم مآلات تدحرجه. وفي هذا الجانب، تتعامل إيران مع إمكانية استهداف العدو لمنشآت حيوية فيها، بكامل الجدية وتستعد لذلك، علماً أن قرارها الرد بدّد أي رهانات إسرائيلية وأميركية على أن تركيبة السلطة السياسية الحالية فيها، في أعقاب الانتخابات الأخيرة، تشكل عاملاً مساعداً لمواصلة إسرائيل عربدتها من دون حساب، وصولاً إلى استهداف إيران في مرحلة لاحقة.
وبالنتيجة، أكدت إيران أن أولوية تجنب خوض حرب إقليمية لديها، لا تعني امتناعها عن الرد على ما تراه تهديداً لأمنها القومي، حتى لو كان ينطوي على مخاطر التدحرج نحو مواجهة كبرى، الأمر الذي يأتي كمفهوم تأسيسي لكبح الرهانات الإسرائيلية والأميركية، وكنقطة توازن بين الحفاظ على قوة الردع وتجنب الحرب. إذ من الواضح أن الرد الصاروخي ساهم في تعزيز صورة النظام وهيبته تجاه الداخل والخارج في مقابل محاولة توهينه، والتي تشكل متغيراً خطيراً حتى لو كانت واهمة، بالنظر إلى احتمال تحولها إلى مفهوم تأسيسي في تقدير مسارات وبلورة خيارات من قبل خصوم النظام وأعدائه، وحتى لدى بعض أصدقائه. ولذلك، تطاول مفاعيل هذه الضربة الصاروخية المستوى الإقليمي، ومن ضمنها أن الصواريخ الإيرانية التي تجاوزت الدفاعات الجوية الإسرائيلية ووصلت إلى العمق الاستراتيجي، أبطلت أي أوهام حول إمكانية الرهان على كيان العدو باعتباره القوة الإقليمية التي يمكن التحالف معها.
وفي الوقت نفسه، عزز الرد الصاروخي الإيراني، مفهوم محور المقاومة كقوة إقليمية في مقابل خطة العدو لتفكيكه وإضعافه، الأمر الذي يشكّل صفعة مدوّية للقيادة الإسرائيلية، قد تمهّد الطريق للاستفاقة من «أحلام اليقظة» التي تساهم في رفع منسوب المغامرة لدى الاحتلال.