| فؤاد بزي |
قلب توسع الاعتداءات الصهيونية على لبنان شكل الحياة في الضاحية الجنوبية. سلوك «خط بئر العبد» أو طريق «الشهيد هادي نصر الله»، في الأيام العادية، كان يستغرق ساعة من الوقت لقطع نحو أربعة كيلومترات، فيما لا يستغرق اليوم أكثر من دقائق معدودة. خلت الشوارع من روادها وموتوسيكلاتها وسياراتها وكل أهلها. دقائق معدودة لقطع المسافة الفاصلة بين المشرفية ودوار الكفاءات، لكنها مغامرة عير محسوبة، ليس بسبب طيش سائقي الدراجات النارية، وإنما نتيجة التعرّض لغارة صهيونية مفاجئة. رغم ذلك، ورغم عشرات الغارات التي دمرت مئات الوحدات السكنية في الضاحية، ومحت مباني من الوجود، لم تهجر هذه المنطقة تماماً من السكان. في الأحياء الضيقة، لا تزال قلة قليلة من أهلها تبقي الحياة في أرض أرادها العدو ميتةً تماماً.
تسير الحياة في الضاحية الجنوبية اليوم على وقع «روتينية» العدوان. بعد ليلة عنيفة من الغارات، تدبّ الحياة صباحاً مع عودة أعداد من النازحين إلى بيوتهم لتفقدها وسحب بعض ما يمكن حمله مما يحتاجون اليه في أماكن نزوحهم. تكاد الزحمة تصبح ظاهرة على «دوار الكفاءات» مثلاً. العائدون خلال هذه الأوقات لا يمضون وقتاً طويلاً، «نأتي لحمل ما تيسّر من بيوتنا، قبل العودة إلى أماكن النزوح»، تقول فادية النازحة من الكفاءات. كثيرون يحملون صرراً من الثياب والحاجيات الملفوفة في أقمشة على الدراجات، أو على سطوح السيارات، ويسارعون للخروج قبل التعرض للخطر.
على وجه السرعة، «نفتح بيوتنا للاطمئنان عليها، وإفراغ الثلاجات من محتوياتها»، تضيف فادية. «بعد الأسبوع الأول من النزوح، يبدو أنّ الإقامة ستكون طويلة، لذا نزيد من مؤونتنا، ونأخذ ثياباً إضافية لنا وللأولاد». في المقابل، لا يهتم ماهر النازح من منطقة الرويس بثيابه، بل عاد لإحضار أوراقه الثبوتية «خشية دمار البيت وفقدانها. فمع الترهل الحالي في الدولة، ستصبح مهمة استعادتها شبه مستحيلة».
على طرقات الضاحية، تقف شاحنات نقل أمام محال الهواتف تفرغ ما في المتاجر. «يقدّر ثمن البضاعة في المحل بحوالي مليون دولار»، يقول صاحب أحد محالّ بيع الأجهزة الخلوية. ويضيف، «سأنقل بضاعتي إلى مستودع آمن لتخزينها، أو بيعها لمحالّ في مناطق أخرى، خوفاً من تعرضها للتدمير في حال قصف المبنى». إلى جواره، يفتح عدد من «الاكسبرسات». وحولها، يتحلق شبان على طاولات استحدثت على الأرصفة الخالية من المارّة. وفي الأحياء الشعبية، تظهر، ولو بخجل، بسطات بيع الخضر، حيث لم ينزح السكان بشكل كامل. وهناك، فتحت بعض الملاحم أبوابها بكميات قليلة من اللحم. وجلس أصحاب عدد من الورش الصناعية الصغيرة أمام محالهم المعتمة بـ«انتظار زبون»! مع ساعات الليل، تختفي الحركة تماماً في الضاحية، وتخلو الطرقات من أيّ حركة، بانتظار ليلة عنيفة أخرى.
خلال الحرب، يجمع مشهد النزوح الضاحية، بشكل متفاوت. فالضاحية ليست منطقة واحدة، بل مناطق ومجتمعات وطبقات اجتماعية مختلفة. في الأحياء الشعبية، لا تزال مظاهر الحياة واضحة في البيوت والأبنية، مثل الغسيل على الحبال والشرفات، ومحال المواد الغذائية التي فتحت أبوابها وأبقت على البضائع في الداخل، «خوفاً من طائرات الاستطلاع»، بحسب أحد أصحابها. حتى ربطات الخبز الطازجة وصلت إلى عدد من هذه المحال.
«لا نحتمل التكاليف المادية أو المعنوية للخروج، إذ لا أريد أن يعاملني أحد بشفقة، أو يطردني صاحب منزل لأن عائلتي كبيرة»، تقول عايدة، طالبةً وصفها بـ«الصامدة في الشياح». ولكن بقاء عايدة في منطقتها دونه مخاطر غير محسوبة، وخاصة في ساعات الليل مع اشتداد الغارات. وبالتالي، «نحن لا ننام في منزلنا، وفي ساعات الليل نخرج من المنزل لننام في السيارة في أحد شوارع بيروت، ثمّ نعود صباحاً». هذا بعض من وضع فقراء الضاحية، أما الأحياء التي يسكنها أغنياء المنطقة، ففرغت بشكل شبه كامل من السكان، كما يبدو واضحاً من خلوّ مواقف السيارات في الأبنية، والشوارع المحيطة.
لكن تصطدم محاولات البقاء للصامدين هنا تصطدم بمشكلة هشاشة البنية التحتية. فالكهرباء، سواء الآتية من مولدات الأحياء، أو التيار الرسمي، مقطوعة عن عدد كبير من الأحياء. في منطقة الليلكي مثلاً، التي تعرضت للقصف، أتى حسين صباحاً إلى منزله، وقام بـ«تعزيل البراد، وتنظيف المطبخ، بسبب فساد اللحوم والدجاج، بعد الانقطاع التام للكهرباء»، إما لتقطّع كابلات الكهرباء على الأعمدة بسبب القصف، أو لإطفاء أصحاب الاشتراكات مولداتهم بعد انعدام الاستهلاك نتيجة نزوح الأهالي من المنطقة، أو حتى نزوح صاحب المولد. وبسبب انقطاع الكهرباء، تتوقف مضخات المياه عن العمل في الأبنية، كما المصاعد، ما يضاعف من صعوبة الوصول إلى البيوت ونقل الأغراض منها.