هذه بنود “التفاهم” مع “صندوق النقد”: أقلّ من “اتفاق” وأكبر من “تشاور”!

/ محمد وهبة ـ “الأخبار” /

تنهي بعثة صندوق النقد الدولي، اليوم، الجولة الثانية من المشاورات مع الحكومة اللبنانية بعنوان «اتفاق محتمل على برنامج تمويلي»، وسط ترجيحات بإعلان عن توصل الطرفين إلى اتفاق يسمّى «staff-level agreement»، أي «على مستوى الموظفين»، تليه إجراءات تتطلّب أشهراً للتوصل إلى الاتفاق النهائي. تفاهم كهذا، يبقى بلا قيمة قبل إنجاز الخطوات اللاحقة، وأبرزها تأكيد التزام لبنان تنفيذ الشروط المسبقة تمهيداً للاتفاق النهائي، علماً بأن الصندوق يطلب إقرار أربعة قوانين في مجلس النواب، فيما تستعد الحكومة لمحاولة أخيرة صباح اليوم لإقناع فريق الصندوق القبول بإقرارها في الحكومة

ما سيُعلن بين لبنان وصندوق النقد الدولي هو أقلّ من «اتفاق» وأكبر من «تشاور». اسمه المتعارف عليه: «اتفاق على مستوى الموظفين». أي أنه اتفاق غير ملزم لأيّ من الطرفين، على أن يكون الالتزام الوحيد بينهما هو نيّات كل طرف تجاه الآخر بعد دراسة الوضع اللبناني. بهذا الاتفاق، تعبّر بعثة صندوق النقد الدولي عن توصل فريقَي الصندوق والسلطات اللبنانية إلى خطّة لمعالجة الأزمة في لبنان. المهم هو ما يقع في الخطوة التالية، إذ إنه بموجب الاتفاق على مستوى الموظفين، ستتم صياغة رسالة نيات ومرفقات لها، وأبرزها «مذكّرة السياسات الاقتصادية والمالية للبنان».

هذه الرسالة ومرفقاتها سيعدّها شكلاً ومضموناً فريق الصندوق، وتشمل التزام لبنان بشروط الصندوق التي فرضها على لبنان خلال جولتَي التشاور الأخيرتين، وتُعرض على الحكومة اللبنانية من دون أن يكون لديها أيّ قدرة على تعديلات جذرية فيها، ولا سيما في المسائل الأساسية التي نالت موافقة فريق الصندوق ومعايير الصندوق المحدّدة مسبقاً. ويجب على الحكومة الموافقة على هذه الرسالة، قبل تحويلها باسم لبنان الى الإدارة العليا في الصندوق، على أن تكون مذيّلة بتواقيع رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة (كما طلب الصندوق أيضاً)، لتصبح مشروعاً جدياً محتملاً يسمح للبنان بالحصول على القروض. أما توقيع الاتفاق النهائي فيكون مرتبطاً بتنفيذ لبنان الشروط المسبقة المنصوص عليها في الرسالة وفي مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية.

عملياً، لا يمكن تسمية ما سيتفق عليه بـ«الاتفاق» مع الصندوق على برنامج تمويلي. بل هو مشروع اتفاق لا يرتّب أي التزامات على أيّ طرف. فلا الحكومة اللبنانية ناقشت الشروط، ولا أقرّت بقدرتها على تنفيذها. كما أن الصندوق لم يقدّم أي قرش للبنان، ولا حتى منحه الصدقيّة التي يطلبها للتعامل مع الدائنين الأجانب. رغم ذلك، سيعلن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ونائبه سعادة الشامي كما سائر فريقه، أن حكومته أنجزت المهمة التي التزمت بها يوم التكليف: إجراء الانتخابات النيابية، وتوقيع اتفاق مع صندوق النقد. وهو حال جميع قوى السلطة التي ستتبنّى هذا الإنجاز، وإن كان بعضها سيناقش لاحقاً هذه الشروط وربما لن يوافق عليها نهائياً. فهذه القوى تعيش بعيداً عن الواقع. سلوكها تجاه الأزمة لا يقدّم أي رابط بين استحقاق الانتخابات ووجود أزمة اقتصادية ـ نقدية ـ مصرفية.

شروط الاتفاق

عملياً، يتحوّل الإعلان عن الاتفاق الى مجرّد مهرجان انتخابي، وهذا الأمر واضح للعيان في السجال المتصل بالشروط المسبقة التي سيلتزم لبنان بتنفيذها مسبقاً قبل توقيع الاتفاق النهائي. وهي شروط لا اتفاق مسبقاً على كيفية التفاوض عليها وما هي حدود لبنان واستراتيجيته وأهدافه. والشروط الخمسة هي:
– تدقيق في مصرف لبنان.

– إقرار قانون الكابيتال كونترول.
– موافقة البرلمان على قانون موازنة 2022.
– إقرار تعديلات بنيوية على قانون السريّة المصرفية.
– قانون إعادة هيكلة المصارف.

وبحسب النقاش، فإن لبنان مطالَب بالتزام تطبيق الشروط الخمسة مسبقاً قبل الاتفاق النهائي. فهل يلتزم بها لبنان؟
أهمية السؤال تعود الى طبيعة النقاشات التي بدأت وتستمر حول هذه الشروط. إذ يوجد بينها مطلب إقرار أربعة قوانين في مجلس النواب، لكن الجانب اللبناني يحاول أن يقنع فريق صندوق النقد بأن يقبل بإقرارها من مجلس الوزراء.

بالنسبة إلى الشرط الأول، أي التدقيق المعمّق في مصرف لبنان، فالمشكلة قائمة أساساً بسبب استمرار ممانعة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة فتح دفاتره أمام شركة التدقيق الجنائي. طلب الصندوق أن ينجز التدقيق بشكل كامل، فردّ الجانب اللبناني بأن الأمر يتطلب بضعة أشهر إذا كان هناك تعاون من مصرف لبنان، لكن التدقيق سيكون مرتبطاً بموجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، أي ما يعرف بسيولته بالعملات الأجنبية والذهب. وهنا جوهر المسألة: فهل جرى تضمين سيولة مصرف لبنان بالعملات الأجنبية أيّ أصول غير قابلة للتسييل؟ وهل الرقم المعلن اليوم والبالغ في نهاية آذار 2022 نحو 11.45 مليار دولار يعبّر عن السيولة الفعلية القابلة للاستعمال؟ وهل الذهب موجود ومتاح للاستخدام؟

بالنسبة إلى الشرط الثاني، فإن رئيس مجلس النواب نبيه برّي لا يزال رافضاً إقرار قانون الكابيتال كونترول. وهو ليس وحيداً في هذا الموقف، بل تسانده مجموعة واسعة من قوى السلطة. ويقول مقربون من الرئيس ميقاتي إن الأخير تحدّث أربع مرّات مع رئيس المجلس بشأن هذا القانون المطلوب من الصندوق كشرط مسبق، لكن بري ما زال مصرّاً على الرفض. إقرار الكابيتال كونترول يعدّ ضرورياً بالنسبة إلى الصندوق الذي يسعى إلى ضمان استعادة أموال القرض بعد بضع سنوات.

بالنسبة إلى الشرط الثالث، فإن صندوق النقد لا يعوّل على إقرار مشروع موازنة 2022 التي انتقدها كثيراً في لقاءاته الأخيرة لأنه ينقصها الكثير من الخطوات، لكن معاييره تحدّد هذا الشرط وبالتالي لا يمكنه التساهل فيه.

هناك أيضاً الملف المتعلق بالتعديلات على قانون السرية المصرفية، فهناك قلّة فقط تعرف ما يقصده الصندوق، لكنها لا تعلم بالضبط كيف يمكن تحقيقه. فالصندوق يطلب أن يتمّ الكشف عن الأموال المحوّلة والمهرّبة للسياسيين والأشخاص المعرّضين سياسياً، وأن تكون هناك تعديلات على السرية المصرفية تتيح مرونة أكبر في آليات الكشف عن السرية المصرفية ومتابعة الملفات المرتبطة بأعمال من هذا النوع، لكن لا أحد بعد يفهم كيف يمكن الحصول على موافقة قوى السلطة على تعديلات تهدف إلى زجّ أركانها وأبنائها في السجون؟

وبالنسبة إلى الشرط الرابع الخاص بقانون إعادة هيكلة المصارف، فهو العنوان الأكثر سخونة لأنه يتعلق بتوزيع الخسائر. سيترتّب على أحد ما في الجمهورية اللبنانية أن يصيغ قانوناً لإفلاس المصارف وإعادة هيكلتها، من دون أن تكون له مصالح مباشرة مع المصارف أو مصرف لبنان أو حتى مع سياسيين أو معنيّين، لأنه يترتّب على صاحب هذه الخطوة أن يلبّي أهدافاً محدّدة ودوراً اقتصادياً وائتمانياً واضحاً في استعادة الثقة بالقطاع المصرفي وتهيئته للقيام بدور في النشاط الاقتصادي مجدداً. والسؤال المطروح هنا: أيّ مصارف ستبقى؟ أيّ مصارف ستذهب؟ هل نعيد هيكلة المصارف وفق انتماءات سياسية وطائفية ومذهبية، أو وفق أهداف إعادة إنتاج الاقتصاد الريعي، أو من أجل تعزيز الإنتاج الوطني… هل سنتكّل أيضاً على صندوق النقد الدولي كي يصيغ لنا هذا القانون؟ ثمّة عشرات الأسئلة في هذا المحور التي تبقى بلا إجابة بسبب عدم رغبة أحد في اتخاذ أيّ موقف حقيقي قبل الانتخابات النيابية. بعد هذا الاستحقاق، قد نستفيق على دفاع شرس عن المصارف بوجه كل الناس.


 جريدة الأخبار