| جورج علم |
تتكثّف الإجتماعات، تنشط المساعي في كل الاتجاهات، ولا شيء يتغيّر… الجبهات مفتوحة. المعارك مستمرة. النزف تتفتح شرايينه. إنه الشهر الـ21 على الطوفان، وتحوّل الغمر إلى بحر، والبحر يطفو بالضحايا ويلفظ البقايا، فيما يأتي موفد، ويذهب آخر… حركة من دون بركة، ومواقف فارغة، ولغة خشبيّة، ونظرات ازدراء، إما لأننا أمّة لم نعد نساوي شيئاً من اعتبار الأمم، أو لأن الأمم قد أدمنت ثقافة الغابة.
الهواء السياسي في لبنان، أميركي. يحاول البعض أن يصحّح فيقول إنه تشريني. عذراً، ليس من فرق شاسع ما بين الأميركي والتشريني طالما أن النتيجة واحدة. هناك في الصف الدبلوماسي من يؤكد على فطنة المسؤول اللبناني الذي وضع كامل بيضه في السلّ الأميركي، كونه الأقوى، والأكثر قدرة، ويملك طاقات، وإمكانات لم تتوافر عناصرها في الجسر الحديدي قبالة ساحل غزّة، وعندما شهق موج البحر من لوعة الغصّة، بلعه. “غطّ الرصيف، طار الرصيف” وتشرشحت قناطير المقالات التي سخّرت حبرها للتفخيم بالإنجاز العظيم الذي لم يصمد شهراً؟!
ها هو الرئيس جو بايدن، أكبر رئيس في تاريخ الولايات المتحدة “عمراً”، يتحدّث حول غزّة، فلا يأبه لكلامه بنيامين نتنياهو. يرسل إليه المبعوث تلو الآخر، ولكّنه لا يبالي. لم يتغيّر شيء، المجازر مستمرة، الكوارث متناسلة، والتهديد والوعيد لغة اليوم، وكلّ يوم، و”الكذب ملح الرجال”.
يتحدث فخامة الديمقراطي عن غزّة. إنها في البال. إنها على المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. وغزّة الملف الدائم في جعبة وزير خارجيته، سندباد الدبلوماسيّة الأميركيّة. “بيغط، وبطير، وبيحكي كتير”.. ويذهب مع الريح!
هل يعقل أن يتحدّث أكبر وأقوى رئيس دولة في العالم عن غزّة من دون أن يترك كلامه أي وقع، أي صدى؟ أليس من المعيب حقا أن يطرح مبادرة تلو الأخرى حول وقف إطلاق النار، من دون أن يردّ عليه أحد، ولو ببسمة أو همسة؟! يرفع الصوت.. لا أحد يسمع. يغلّظ النبرة، لا أحد يبالي…
مسخرة! ترى هل هي فعلاً مسخرة أم مسطرة لتسويق نوع من النفاق السياسي. والنفاق هنا ليس بشتيمة، بل توصيف لحالة. هل فعلاً نتنياهو لا يسمع، أو يسمع ويطنّش؟ هل صحيح أن الرئيس الوقور لا يعرف نتنياهو، أم سبق أن عجنه، وخبزه، ووقفا جنب إلى جنب، وتهامسا، وتوافقا، واتفقا على “دفن الحاج زنكي سوا”؟!
وتبقى بيروت سيّدة الإنتظار. تنتظر “الحاج زنكي”، عفواً آموس هوكشتاين. جاءها مرّة يقول إنه يسعى إلى ترسيم الحدود البريّة، وذهب. ثم جاء ثانية يقول بتطبيق الـ1701، وذهب. وجاء ثالثة يقول بوقف إطلاق النار، وذهب. متى تكون الرابعة؟ لا جواب. والجواب الوحيد المتداول وراء حيطان الدبلوماسيّة أنه يريد فريقاً لبنانياً رسمياً للتفاوض. خبرته السابقة أملت ذلك.
عندما فاوض لترسيم الحدود البحريّة حول حقل قانا، و”كاريش”، و”بلوك 9”. كانت مفاوضات، والمفاوضات أفضت إلى نتائج، والنتائج استقبلت في بيروت بنثر الورد، والأرز، والتصفيق، والصياح، والمديح، لكن يبدو أن مياه البحر مالحة جدّاً، وقد ذوّبت الخط الأزرق المائي، وتركته أثراً بعد عين؟
وزير الدبلوماسيّة اللبنانيّة عبد الله بو حبيب ألمح إلى مفاوضات “غير مباشرة” مع “إسرائيل”. يومها فاعت الدبابير من كل حدب وصوب، فاحتشم، وتكتّم، خوفاً من اللسعات “الشعبويّة” القاتلة. ولكن كما يقول المثل الشعبي: “كلمة الحق سبقت”. نعم.
هناك مطالبة أميركيّة بتوفير جهوزيّة لبنانية للتفاوض، إذا كان لبنان الرسمي لا يريد الحرب، ويسعى جاهداً إلى وقف إطلاق النار، ويطالب بتنفيذ القرار 1701 بكامل مندرجاته، ويعتبر أن الخط الأزرق ليس هو خط اتفاقيّة الهدنة ـ (آذار 1949) ـ وخط الهدنة وهو خط ترسيم الحدود البريّة مع فلسطين المحتلة، والمعترف بها دوليّاً… إذا كان يريد كل ذلك، “من بابوجه حتى طربوشه”، عليه أن يستنفر جاهزيته ليطالب بحقوقه وينتزعها من بين الأشداق المفتوحة!
إن الإعتماد على هوكشتاين في خريف الولاية لا يكفي. قد يأتي.. لكنه سبق أن فعل، واكتشف الفراغ. فراغ في العقول قبل الحلول. وفراغ في الحلول قبل أيلول، وأيلول عدّاد الفصول، وشهر المتغيّرات، والرياح التشرينيّة، والورق الأصفر، والأغصان التي تتعرّى، والطيور الراحلة في غياهب الأفق البعيد… ومتى يأتي من البعيد أفق لليوم التالي… ليس من تباشير.. الطبقة التي هي “فوق” مشغولة بأمورها، بتدبير أولادها في المدارس، والجامعات، وتوفير أسباب الراحة، والبحبوحة على أبواب فصل الشتاء، والبحث عن موازنة لخزينة فارغة تموّل من فلس الأرملة. فيما الطبقة التي هي “تحت”، تعنّ، وتئنّ، وتتكوّى، وتتلوّى، وتجوع، وتعطش، وتموت على أبواب المستشفيات، وتصرخ، وتستغيث، ولا أحد من فوق يسمع. إنه الفراغ الذي يملأ كلّ شيء، العقول، والأدمغة، والأمكنة، والإرادات، والمبادرات…
ولما العجب؟! الهواء السياسي في لبنان أميركي، والهواء اللبناني في أيلول تشريني، وما بين الأميركي والتشريني في أيلول، ينتظر لبنان “المبلول” عسى أن يكون خيراً.. ولا يطول الإنتظار!