بين فؤوس الحطّابين ونيران الحرائق.. هل يتشدّد القضاء في حماية “رئة لبنان” العكارية؟

| سمر فضول الخوري |

مجزرة تلو الأخرى تُرتكب بحق الثروة الحرجية في عندقت – العكارية.. والدولة “لزوم ما لا يلزم”. فبقلق وحذر تستقبل بلدات عكارية الخريف ورياحه المتقلّبة، وتجد نفسها في مواجهة مشكلتين أساسيتين في منتهى الخطورة.

الأولى، تتمثل بالحرائق التي “تأكل معها الأخضر واليابس” كما حصل قبل ثلاث سنوات في “المجزرة” التي حوّلت آلاف الهكتارات الخضراء رماداً، طابعة مشهدًا مأسويًا امتد من جرد بلدة القبيات الى وادي عودين في عندقت وصولًا الى قرى اكروم المتاخمة للحدود السورية.

والثانية، تتمثل بـ”مافيات الحطب” التي لا تُفوّت فرصة إلّا وتستغلها لوأد ما تبقّى من ثروة عكار الحرجية التي تُعدّ رئة لبنان، نظرًا لتنوّعها الإيكولوجي والبيولوجي. وتشكّل هاتان المشكلتان وضرورة معالجتهما تحدّيًا كبيرًا في محاولة حماية المساحات الخضراء التي تُعتبر ضمانة الصمود أمام التغيّر المناخي الذي تحوّل هاجساً عالمياً دفع بالدول الكبرى إلى توظيف معظم إمكاناتها للحدّ من تداعياته.

حطب عكار يغزو لبنان!

على الحمير، ينقل الحطّابون أشجار السنديان والصنوبر من وادي عودين – عندقت إلى الشاحنات التي تنقلها إلى مختلف المناطق اللّبنانية، حيث يتمّ بيعها بأسعار جنونية بلا حسيب أو رقيب.

بأمّ العين، رأى عدد من الشبان الذين كانوا يمارسون رياضة “الهايكنغ” في مرتفعات البلدة، الحطب مقطعًا من شجر الصنوبر أخضر كان أم يابسًا، ونقله من بلدة الى أخرى، ليتمّ بيعه بعدها بآلاف الدولارات.

على المقلب الآخر، وفي بلدة القبيات، اتخذ عدد من الشبّان مسؤولية حماية الأحراج على عاتقهم، فعمدوا إلى ملاحقة تجار الحطب بالطائرات المسيّرة وتصويرهم.

هذه التعدّيات وما ينتج منها من كوارث بيئية، تُضاف إلى سلسلة حرائق اندلعت في الأحراج، كان أكبرها عام 2021 وشكّلت أكبر كارثة بيئية في حق غابات لبنان، حيث امتدّت الحرائق على مدى أيام وقضت على النصف الجنوبي للوادي، وشرقًا نحو منطقة أكروم والوديان المتاخمة للحدود مع سوريا، في حين أفاد تقرير “مركز الحرائق في عندقت” أنّ الحرائق قضت على نحو 10 ملايين متر مربع من غابات الصنوبر والسنديان وبعض أشجار اللّزاب بالإضافة الى الأشجار المثمرة على اختلاف أنواعها.

وفي تاريخه، أصدر مجلس البيئة في القبيات ـ عكار بياناً تفصيلياً حول مجريات الحرائق، حيث اعتبر أنّ “الخسائر البيئية لا تحصى”. وأشار إلى أنّ “هناك غابات بكاملها خسرت أشجارها، وخصوصاً أشجار السنديان والصنوبر البري الذي يُعتبر من أهم الأصناف الشجرية التي تنظف الهواء من ملوثاته. كما تمثلت الخسارة الكبيرة في الغطاء النباتي المكون من الزهور والحشائش، الثروة الحيوانية المتنوعة من سناجب إلى سلاحف وثعالب وطيور وغيرها، لم تسلم من نار الحريق فدفعت ثمنًا كبيرًا، ونتج من هذه الكارثة تصحّر رقعة كبيرة من رئة لبنان، الأمر الذي يؤدي حتمًا إلى جفاف، انجراف التربة، وسيول كبيرة عند هطول الأمطار، وبالتالي إلى تغيّر مناخي”.

ولفت المجلس، الى أنّ “خسارة مصدر الاوكسيجين كبيرة، وسيكون لها تداعيات سلبية على الصحة العامة. كما أنّ الضربة الكبرى التي طالت التوازن الايكولوجي الدقيق ستؤدي حتماً إلى انتشار واسع لبعض الحشرات والآفات الزراعية والصحية”. واللافت بحسب المجلس “هو تراجع السياحة البيئية التي تشكّل دعامة اقتصادية في المنطقة نتيجة خسارة هذه الغابات”.

ولحظ المجلس أيضًا أنّ “هناك خسائر زراعية كبيرة طاولت بساتين الزيتون والكرمة واللوز والجوز والتفاح والإجاص والخضار على أنواعها. ولن ننسى أنّ هناك من دفع من حياته ثمنًا لهذه الحرائق، هو الشاب امين ملحم ابن بلدة كفرتون”.

بالأرقام.. المساحات المتضررة

تمدّدت الخسائر والأضرار وأدّت إلى مشكلات أُخرى، إذ تشكّلت مع الحريق طبقة من التربة على الأرض، منعت مياه الأمطار من التدفّق إلى جوف الأرض، ما أدّى في فصل الشتاء، إلى انزلاقات كبيرة جرفت معها الصخور والأغصان وجذوع الأشجار المحروقة.. فكانت النتيجة تغييراً كبيراً في تضاريس المنطقة حيث اختفت أراض وتضرّرت أخرى.

وتشير الأرقام، إلى أنّ مساحات الأراضي المتضررة من الحرائق وما تلاها من انهيارات، تصل في بلدة عودين ـ عندقت إلى:

5.500.000 مترمربّع، تقسّم إلى 2.000.000 متر زراعي و3.500.000 مساحات حرجية.

وفي القبيات:

500.000 متر مربّع من المساحة الحرجية.

أمّا في بلدة أكروم فـ 2.700.000 متر مربع قد تضرّرت، منها 2.000.000 متر مربع حرجي و700.000 زراعي.

هذه الأرقام، ليست نهائية، وهي في منحى تصاعدي، خصوصًا أنّ أكبر الحرائق وأكثرها تُسجّل سنويًا “في رئة” لبنان، إذ تشير إحصاءات الدفاع المدني، الى أنّ عدد الحرائق التي اندلعت في محافظة عكار خلال السنوات الخمس الأخيرة توزّعت كالآتي:

مبادرة مناطقية لتنظيم قطاع الحطب

أثّرت تداعيات الأزمة الاقتصادية مباشرة على أداء الجهات الرقابية الرسمية بيئية كانت أم أمنية، وتركت آثارًا كارثية على الثروات الحرجية في المنطقة التي تحوي أكبر غابة حرجية في الشرق الاوسط. هذا التقصير فرض على الجمعيات الأهلية الدخول مباشرة على خط إنقاذ ما تبقّى من تلك الثروة، والعمل على تعزيزها وفق خطط استراتيجية على المديين المتوسط والبعيد مع متخصصين في الشأن البيئي.

ففي بلدة عندقت التي تضمّ غابة وادي عودين، انطلقت مبادرة تحوّلت الى جمعية لمراقبة الوادي على مدار الساعة وطوال أيام الاسبوع، وحملت اسم “تدبير” وفق ما تؤكّد نائبة رئيس الجمعية الدكتورة داليدا درزي، والتي تشير الى أنّ الانطلاقة جاءت عقب الحرائق الكارثية التي نشبت في المنطقة عام 2021 و”التهمت 10 في المئة من غابات عكار”، حيث تمّ تجهيز فريق الاستجابة بكافة المعدات اللازمة ليبقى في جهوزية تامّة 24/7 ما جنّب أحراج عودين، وعلى مدار 3 سنوات متواصلة، الحرائق.

وبالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) تمّ إجراء سلسلة تدريبات عملية وتطبيقية على مراحل عدة مع خبراء من المنظمة، تناولت سبل قراءة الخرائط، والتعرف على الغابات وتطورها، والتدرب على أصول “التشحيل”، أساليب الحدّ والوقاية من الحرائق وتمدّدها… ليصبح فريق الاستجابة الأولية، والمؤلف من 16 عنصرًا على جهوزية تامّة لمراقبة الوادي ومكافحة الحرائق، كما توضّح درزي التي تكشف عن أنّ الشرارة الاولى لعمل الجمعية جاء عقب صدّ شبان عندقت نيران الحرائق عبر تشكيل حاجز بشري فَصَل المنطقة الحرجية عن النيران فجنّب المساحة الخضراء المتبقية كارثة كبيرة في ذلك الوقت.

لا ينحصر عمل الجمعية بحسب درزي عند هذا الحدّ، بل تسعى الجمعية عبر معمل تصنيع الحطب الموجود في البلدة إلى تنظيم واقع الحطب في المنطقة، حيث يتمّ فرم كل ما ينتج من تشحيل الشجر وإعادة تصنيعه للاعتماد عليه في التدفئة في فصل الشتاء، بعيدًا من العشوائية السائدة حاليًا في هذا القطاع.

أضف إلى ذلك، تسعى الجمعية، بحسب درزي، الى “تصنيف الغابة، لا كمحمية وادي عودين نظرًا لصعوبة الأمر مع وجود أملاك خاصة، لكن كغابة محمية، بهدف حمايتها من التعدّيات البيئية، وتصنيف ما تحتويه من أنواع شجر وحيوانات ونباتات، اضافة الى المشاريع التي يمكن أن تنتج من هكذا تصنيف، وتصبّ في مصلحة حماية الوادي”.

هدير الوساطات أقوى من الإجراءات!

هذا على صعيد دور الجمعيات المحلية في مراقبة الحرائق والحدّ منها، أمّا على صعيد قطع الأشجار المعمّرة والخضراء وغيرها، فتجدر الإشارة إلى أنّ كُتبًا عدة أرسلها ناشطون بيئيون، وغير رسميين، الى الوزارات المتخصصة من زراعة وبيئة، طلبًا للتدخّل في مواجهة “مافيا الحطب”، التي تتذرّع تارة برخص “التشحيل” وطورًا تتحامى بـ “المحسوبيات” للتلطي خلف أفعالها، إلّا أنّ هدير الوساطات كان أعلى من صوت المطالبين بحماية الغابة.

تُواجه الجمعيات في المنطقة أزمة الصلاحيات، فدورها محدود، ويقتصر على المراقبة والتبليغ في حال رصد عناصرها أي عمل تخريبي، وفي الإطار تمّ تعزيز المراقبة في وادي عودين من خلال الاعتماد على الطائرة المسيّرة “درون” لمراقبته وحمايته من جشع التجار الذي لا يرحم.

وتساهم المُسيّرة في تحديد أماكن وجود المخالفين وتوثيق أفعالهم والتبليغ عنهم لمأمور الأحراح والبلدية، ليتمّ على أساسه تسطير محاضر ضبط في حقهم. غير أنّ الإجراءات المتخذة حتّى تاريخه لم تكن صارمة وبمقدار الجرائم المرتكبة، وهو ما فتح المجال أمام مافيا الحطب للاستمرار في الاعتداء على المساحات الخضراء في المنطقة، والتي كان آخرها الأسبوع المنصرم، فمن يُسطر في حقه محضر ضبط يدفعه برحابة صدر لأنّه لا يساوي 10 في المئة من سعر الحطب الذي يُباع خارج المنطقة!

في الحديث عن مأموري الأحراج في المنطقة يوجد مركز في بلدة عندقت يتولّى من حيث المبدأ مراقبة الثروة الحرجية ومعاقبة المخالفين وتجار الحطب، ولكن على الأرض يصطدم العناصر بعقبات كثيرة أبرزها المحسوبيات العائلية التي تتدخّل لمصلحة تجار الحطب.

90 ضبطاً.. ولكن!

يلفت رئيس المركز جورج رستم الى أنّ أكثر من 90 ضبطاً حُرّرت هذه السنة، بواسطة مأموري الأحراج ويُنتظر البت بها ومحاسبة أصحابها، وعليه فإنّ الكرة في ملعب القضاء، الذي عقد آخر جلسة له عام 2019.

وفيما تكشف الوقائع مساعدة الآلية القضائية المرتكبين على التهرّب من المحاكمة، يشير رستم إلى أنّ مركز الاحراج يُحيل محاضر الضبط الى محكمة جزاء القبيات، التي تحيلها بدورها إلى النيابة العامة في طرابلس، والتي تعيدها بدورها إلى محكمة القبيات في عملية تستغرق نحو 6 أشهر وربما أكثر. أمّا اليوم فيعول مركز الاحراج على تعيين مدعية عامة بيئيّة جديدة، أوكلت اليها المهمّة، وقد عقدت قبل العطلة القضائية بشكل اسبوعي جلسة او اثنتين للبت بالمحاضر ومقاضاة أصحابها.

وإذ كشف رستم عن أنّ الغرامة باتت عشرة أضعاف، لفت الى أنّه تمّ تسطير محاضر ضبط في حق المخالفين من بلدة أكروم المجاورة، وتمّ توقيفهم لمدة 4 أيام قبل إطلاقهم بسند كفالة، لأنّ الحطب محروق وليس أخضر، كما يشير الى توقيف عدد من الحطابين من بلدة البيرة لمدّة شهر بعد قطعهم أشجاراً معمّرة.

ويتطرّق رستم إلى لائحة أسماء انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لتجار الحطب في البلدة، موضحًا أنه تمّ تحرير محاضر ضبط في حق أفرادها، آملًا في أن يتحرّك القضاء لأنّ توقيف تاجر أو اثنين يساهم في ايقاف هذه الظاهرة، لافتاً الى أنّ التشدّد القضائي ضروري، خصوصاً أنّ حطب وادي عودين وصل الى مزارع شبعا من جهة وتجاوز الحدود نحو الأراضي السورية من جهة أخرى.

وعن الخطط الوقائية لحماية الأحراج وتطويق حركة التجار، يتحدث رستم عن خطة مراقبة أعدّها المركز بالتعاون مع البلدية وجمعية “تدبير” لتأمين المراقبة على مدار الساعة، اضافة الى مشروع مشترك مع وزارة الزراعة لتأهيل برج مراقبة يفيد على صعيد الحرائق وتقطيع الحطب، موضحًا أنّه سيتمّ وضع نقطة مراقبة الأحراج والشاحنات التي تنقل الحطب على أن يبصر المشروع النور قريبًا عقب الانتهاء من التجهيزات اللّوجستية، ليصبح مركزًا دائمًا للمراقبة على مدار السنة.

• تمّ إعداد هذا التقرير ضمن مشروع “الإعلام والتغيّر المناخي والقضايا البيئية” بالتعاون بين مؤسسة “مهارات” ومشروع خدمات الدعم الميداني في الشرق الأوسط (الأردن، لبنان والعراق) والمنفّذ من شركة كووتر انترناشونال، وبتمويل من الشؤون الدولية الكندية.