مواجهة المسيحيين بالديموغرافيا وقانون الانتخاب و”أحصنة طروادة”

جريدة الأخبار

| هيام القصيفي |

أمام الثنائي الشيعي والقوى السنية نقاشات جديدة تدور حول ما يعيشه فعلياً المسيحيون الذين أصبحوا عالقين، بين ما يريده الثنائي وبين قانون الانتخاب وإعادة إنتاج طبقة سياسية مكرّرة عن نسخة ما بعد الطائف.

هل يعرف الثنائي الشيعي حقيقة ما يدور في ذهن «المجتمع المسيحي العميق»، بعيداً عن البروباغندا التي يقدّمها إعلاميو «المحور» وسياسيوه، وحتى بعيداً عن خطاب سياسي للتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية مغلّف بالدبلوماسية وبقفازات ناعمة.يصنّف الثنائي المسيحيين بين فئتين لا ثالث لهما، التيار الوطني والقوات. وعلى أساس مواقف هذين الفريقين يبني على الشيء مقتضاه. وهذا ليس هو واقع الحال.

فحتى داخل هذين الحزبين، هناك فئات لا تعبّر دائماً عن تطلعات قياداتها وتوجهاتها، عدا وجود شرائح سياسية وفكرية مستقلة تماماً عن توجهات الأحزاب، كتائبيين وقواتيين وتياريين وكتلويين عتيقين ومن قرنة شهوان وبقية التكتلات المسيحية التي تقرأ في كتاب المعارضة للثنائي الشيعي، تعبّر عميقاً عن جوهر ما يدور في ذهن المسيحيين. ورغم كل التدهور الذي يعيشه المجتمع المسيحي، فكرياً وثقافياً واجتماعياً، والذي لا تعبّر عنه حالة الانبهار الاقتصادي والمالي في المنتجعات والملاهي الجبلية والساحلية، لا تزال فيه قلة من الأنتلجنسيا، السياسية والدينية والفكرية والثقافية، تناقش وتفكّر وتقرأ ما يحصل خارج اعتبارات الانتظام في مجموعات حزبية مؤطرة.
في خلاصات ما يفكّر فيه معنيون ويقولونه:

ثمّة شعور دفين بأن ما طُبّق بعد الطائف من ممارسة نُسبت إلى النظام السوري وحده، لا يزال يشكل – بعد 19 عاماً على خروج الجيش السوري – نموذجاً يعتمده الثنائي، ومعه – في مفاصل أساسية – القوى السنية، ويتقاطع معه وليد جنبلاط بحسب الملفات التي لا تسبب حساسيات فاقعة مع القوى المسيحية حفاظاً على الواقع في الجبل. تطبيق الطائف بمعناه السوري، لم يعد حكراً على السوريين، صار جزءاً لا يتجزأ من تعامل القوى غير المسيحية مع المسيحيين، وبتغطية من حلفاء مسيحيين، موارنة وأرثوذكس وأقليات تعيش في الفلك نفسه.

لم يكن فتح السجال حول قانون الانتخاب على لسان الرئيس نبيه بري الشرارة التي أطلقت النقاش حول ما لا يريد الآخرون إعطاءه للمسيحيين، بعدما «ضاقت عينهم بقانون ارتضاه المسيحيون وتوافقوا عليه، فأرادوا اليوم تغييره». هذا الموقف سبقه كلام نسبه نواب في التيار الوطني إلى الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري، قبل مدة، يقول فيه إن المستقبل توافق مع بري وجنبلاط على تغيير قانون الانتخاب، ما أثار حينها نقزة لدى نواب مسيحيين اعتبروا أن الحريري يرمي هذه العبارة قبل سنتين من موعد الانتخابات لتهيئة الأجواء لمعركة حول القانون، يتوافق فيها المسلمون في وجه القوى المسيحية التي قبلت النسبية والقانون المُعتمد، وحين أظهرت نتائجه خروج المسيحيين من عباءة بقية القوى السياسية، أرادوا تغييره.

اليوم، يتحوّل قانون الانتخاب إلى واحد من الأسلحة التي يراد منها سحب المزيد مما لا يزال يمثّل الرافعة التي يستطيع المسيحيون التمسّك بها من داخل النظام.

وثمة أسئلة يمكن التوقف عندها في سياق مراجعة ما يراه المسيحيون في حقيقة تفكيرهم:

أولاً، من المفيد التذكير بأن ثائرة القوى السنية كانت تثور لدى أي التباس يتعلق بالاستشارات لتسمية رئيس الحكومة وصلاحياته، وحين تتأخّر تسميته من القصر الجمهوري، وحين يغمز أي سياسي من قناة رئيس الحكومة أياً كان اسمه، فتنعقد فوراً لقاءات رؤساء الحكومات السابقين لتسجيل موقف اعتراضي. اليوم، يقارب الشغور الرئاسي عامه الثاني، وكرسي الرئاسة الماروني فارغ، ولا أحد يبدي امتعاضه من هذا الغياب. وكل ما يقوله المسيحيون من مواقع سياسية ودينية لا يؤخذ به. ورغم كل الاختلافات التي تُسجل بين الثنائي والقوى السنية، ولا سيما المعارضة منها لحزب الله، تبقى هناك دائماً مساحة للالتقاء حول ملفات تكرّست بفعل ممارسات ما بعد الطائف. وحتى تخطّي مبدأ انعقاد جلسات مجلس الوزراء في غياب رئيس الجمهورية أصبح مكرّساً وكأنه عرف يؤخذ به، من دون الرجوع إلى أي مسلّمات أساسية تحكم الأخذ بموقع رئاسة الجمهورية وعدم القفز فوقه وكأن لا ضرورة له.

ثانياً، جاء توقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة ليشرّع الباب على تساؤلات (لا تتعلق بممارساته الفعلية التي غطّى بموجبها ارتكابات كل الطبقة السياسية) حول الذهاب المستدام في كل مرة إلى مساءلة قيادات مسيحية، بدءاً مما حصل مع رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع بعد الطائف وصولاً إلى توقيفات 7 آب، إلى انفجار مرفأ بيروت وتعطيل القضاء للتحقيق فيه، والتي لا يظهر فيها سوى استهداف للمسيحيين، مرتكبين أم أبرياء، من دون الالتفات إلى أيّ من التجاوزات التي تحصل في بيئات أخرى.

ثالثاً، حين أطل الوزير السابق الياس المر من عين التينة، وقبل الثنائي بعدها بتسليم المديرية العامة للأمن العام إلى العميد الياس البيسري، كان ذلك بداية عودة التركيبة السابقة إلى لعب أدوار داخل البيئة السياسية المسيحية. الإشادات المتبادلة بين المر ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية ومحاولة استقطاب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل إليه، تعادل كذلك استقطاب الأخير لشخصيات سياسية مناطقية تدور في فلك الثنائي وسوريا. في المقابل جاءت استقالة النواب الأربعة من التيار لتثير تساؤلات حول الأدوار التي يمكن أن يستفيد منها الثنائي في إطار تأكيد الحضور داخل المجتمع نفسه الذي يحتفظ بعلاقة سويّة مع قيادة التيار إياها. لكنه، في المحصّلة، يبقي نفسه مؤثّراً فاعلاً بينهما في انتظار الانتخابات المقبلة.

رابعاً، وأخيراً، لم يعد تكرار الكلام عن التركيبة الديموغرافية ليثير أي التباسات أو نقزات جديدة داخل القوى المسيحية. فالتهويل المتكرر أفرغ الكلام الحقيقي من مضمونه، ولم يعد يشكل سيفاً فوق رؤوس المسيحيين، لذا كان الانتقال إلى مرحلة قانون الانتخاب لأنه يسحب فعلياً البساط من تحت المسيحيين. ثمة سقف هو اتفاق الطائف يحمي التركيبة اللبنانية. المشكلة في حال التخلي عنه تكمن في خلق رؤى سياسية أخرى، والكلام هنا لا يتعلق فقط بالمطالبة بالفيدرالية، بل بعمق النظرة التي تتكرّس حيال العيش تحت سقف واحد.