لم يكُن إعلان نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي بأن “الدولة أفلست وكذلك مصرف لبنان وللأسف وقعت الخسارة”، زلّة لسان أو اجتهاد شخصي، بل هو تعبير عن الحقيقة المرة التي حاول المسؤولون طمسها طيلة الأعوام الماضية. وإن عاد الشامي ومعه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، للاستدراك واحتواء الموقف، لكن ما قيل قد قيل.
التصريح الذي وصفته مصادر سياسية بـ”الخطير”، لم يكن مجرد رأي خبير اقتصادي أو مالي، أو مرجع سابق، بل من مرجع حكومي ويقود التفاوض مع صندوق النقد ومطلع على نتائجه والخيارات. ما يكسب الكلام مصداقية وخطورة أكبر.
فهل تصريح الشامي إعلان رسمي بإفلاس لبنان بكل تبعاته وتداعياته؟ وهل يعني أن مصرف لبنان فقد احتياطاته من العملات الصعبة؟ وأن الودائع المصرفية قد “تبخّرت”؟ وهل سيدفع هذا الأمر المودعين للمطالبة بالحجز على أملاك وأصول الدولة اللبنانية وليس فقط على أصول المصارف؟
مرجع وزاري مالي سابق يشير لموقع “الجريدة” الى أن “أسلوب تعبير نائب رئيس الحكومة غير صحيح، لأن الدولة لا تُفلس، بل لديها اقتصاد متكامل وأصول وأملاك واستثمارات، ولو أن الاقتصاد يعاني الاضطراب والخلل في جوانب عدة.. فهناك دول عدة تعرضت لأزمات كبرى مشابهة للأزمة اللبنانية كألمانيا واليونان واستطاعت الخروج منها بخطط مالية ـاقتصادية طويلة الأمد.. لكن في الوقت نفسه يضيف المرجع: لم يعد جائزًا خداع الناس والتعمية على الحقائق والواقع المأساوي الذي وصلنا اليه.. فالفجوة المالية الكبرى عبارة عن خسائر مصرف لبنان 72 مليار دولار بعدما كانت 69 مليار دولار في أيلول الماضي، هذا عدا عن ديون الدولة وقسم منها بالدولار والآخر بالليرة اللبنانية (100 ألف مليار ليرة أي حولي 5 مليار دولار بعد انخفاض قيمتها الفعلية بعد انهيار سعر العملة اللبنانية)، أما الديون بالدولار فتبلغ 40 مليار دولار للدول والمؤسسات المالية من ضمنهم اليوروبوند (حوالي 15 في المئة) والتي لم يتم الاتفاق على كيفية سدادها حتى الآن”.
ويكشف المرجع أن “مصرف لبنان بحالة إفلاس، 72 مليار دولار عجز غير التزامات الدولة”. ويكشف ايضًا أن “أموال المودعين تبخّرت منذ ثلاثة أعوام، وبالحد الأدنى نصف الودائع لم تعد موجودة في المصارف، وقد يصار إلى إعادة تكوينها وإعادتها لأصحابها، لكن الأمر يتطلب سنوات.. اليونان مثلًا استغرقت 13 سنة لتسديد ديونها وإعادة الودائع أبان أزمتها في العام 2008، علماً أن اليونان لاقى مساعدة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية وصندوق النقد، ولم يكن يعاني من أزمة نقدية ومالية وسياسية وطائفية وحصار مالي ودبلوماسي، أميركي أوروبي خليجي، وحروب داخلية وخارجية، وواقع إقليمي ملتهب كحال لبنان”.
لذلك، يخلص المرجع للقول، إن الخروج من الأزمة يتطلب بالحد الأدنى عشر سنوات، وهذا يحتاج إلى قرار سياسي كبير بإعادة بناء الدولة، وتحديد الخيارات الوطنية السياسية والاقتصادية الكبرى، والاتفاق على سياسة خارجية موحدة، وعلى قرار الحرب والسلم وسياسة دفاعية لكيفية حماية لبنان وردع الاخطار المحدقة”، وهذا صعب المنال إلا بتسوية إقليمية ـ دولية قد يكون توقيع التفاهم النووي الإيراني أحد أبوابه.
سارع الشامي لتوضيح تصريحه، مؤكداً أن كلامه اجتزئ وأنّ الدولة غير قادرة على المساهمة، بشكل كبير، في ردم الهوّة، بما معناه أن ما من سيولة لديها.
حاكم مصرف لبنان بدوره نفى الحديث عن إفلاس “البنك المركزي”، مناقضاً كلام الشامي بقوله إن “مصرف لبنان لايزال يمارس دوره الموكل اليه بموجب المادة ٧٠ من قانون النقد والتسليف وسوف يستمر بذلك”.
لكن توضيح ميقاتي أكثر خطورة من كلام نائبه، وجاء ليفضح النوايا لكيفية الخلاص من الأزمة، فأشار ميقاتي إلى أن الشامي قصد “السيولة وليس الملاءة”، ما يثير تساؤلات عدة حول أن يكون تصريح الشامي وتفسير ميقاتي يمهّدان لعرض أملاك وأصول الدولة في “المزاد العلني” للبيع، ومقدمة لبيع أو رهن احتياط الذهب الموجود ثلثه في الولايات المتحدة وثلثاه في البنك المركزي ويقدر بحوالي 16 مليار دولار.
وتعزز هذه المخاوف دعوات جهات سياسية ومصرفية للتصرف بأملاك الدولة، لسد عجزها وسداد ديونها لمصرف لبنان، ليتمكن بدوره من سد ديونه للمصارف، ليتاح لها هي الأخرى إعادة الودائع إلى أصحابها، لا سيما وأن حاكم مصرف لبنان يؤكد بأن تمويل عجز الدولة كان يتم بطلب السلطة السياسية الممثلة بمجلسي النواب والوزراء وليس من بنات أفكاره. لذلك يستخدم مصرف لبنان وحزب المصارف كافة الأدوات والأسلحة لتضييق الخيارات، ورفض خطة التعافي وطريقة توزيع الخسائر، وتسويق التصرف بأصول الدولة كخيار أخير للإنقاذ.
ويتلاقى هذا الخيار مع توجه فرنسي لاستثمار أكثر من قطاع ومرفق في لبنان، كمصرف لبنان والمصارف والاتصالات والكهرباء ومرفأ بيروت، اضافة الى استثمارهم في قطاع التنقيب عن النفط عبر شركة “توتال”، مع إشارة الى العلاقة الجيدة بين ميقاتي والفرنسيين!
فهل بدأت مرحلة إعلان إفلاس الدولة، لتصفية مؤسساتها ومرافقها وعرضها للبيع والرهن والاستثمار؟ ولأي سبب؟ اقتصادي أم سياسي؟ وما علاقة صندوق النقد بهذا المشروع؟
مصادر مطلعة على موقف رئيس الحكومة، ومشاركة بجزء من ورشة الاجتماعات التي حصلت في القصر الحكومي، تدعو إلى عدم الوقوف عند كلام نائب رئيس الحكومة، والتركيز على ما شهدته السراي الحكومي من اجتماعات موسعة مع صندوق النقد ومنظمات دولية عد،ة والمواقف والخطابات التي وضعت الأمور في نصابها وأزالت أي التباس في هذا السياق. وتركز النقاش خلال الاجتماعات بحسب ما تشير المصادر على كيفية الخروج من الأزمة، مشيرة إلى أهمية وجود صندوق النقد في لبنان منذ عشرة أيام في لبنان للتفاوض على رسم الخطوط العريضة للاتفاق على بنود أساسية. وكشفت أن التوجه الحكومي وصندوق النقد الى إقرار مجموعة من البنود الإصلاحية بالتوازي:
- التفاوض على خطة التعافي أو النهوض الاقتصادي.
- قانون الموازنة.
- قانون “الكابيتال كونترول”.
وترفض المصادر نفسها الحديث عن إفلاس الدولة، مفضلة استخدام تعبير “التعثر”. إذ أن لبنان دخل في “حفرة” مالية ـ اقتصادية ـ مصرفية ـ نقدية، لكن هناك إمكانية الخروج منها طالما لبنان يملك مقومات ومقدرات وموارد إذا أحسن إدارتها، بالتوازي مع تسريع وتيرة التفاوض مع صندوق النقد، وبالتالي إعادة دورة الانتاج والنهوض بالاقتصاد ووضع خارطة طريق لإعادة الودائع المصرفية للمودعين والتي لم تتبخر كما يُقال، بل الحقيقة أن لا قدرة للمصارف على إعادة الودائع كاملة في وقت واحد قبل إعادة جدولتها وإقرار “الكابيتال كونترول” وإعادة هيكلة القطاع المصرفي.