| علاء حسن |
تقول القاعدة الشهيرة إنه “لا يُفتي قاعد لمجاهد، ولا يُفتي أهل الدثور لأهل الثغور، ولا شأن لربات الحِجَال بمعارك الرجالِ، فإن هجموا فهذا دأبهم، وإن كمِنوا فهذا تقديرهم، وهي بالأساس معركتهم، لأنه إن حميَ الوطيس لن تجِدْ غيرهم، فإن وثقتَ فلا شأن لك بتفاصيلهم، وإن خوَّنت فَسدَّ مكانهم، أو إلزم الصمت!”
وبصرف النظر عن مصدر المقولة ومدى دقة مفاهيمها، إلا أنها تنطبق من دون شك على قيادة المقاومة في لبنان، وكيفية إدارتها للمعركة الدائرة منذ الثامن من تشرين الأول الماضي ولغاية اليوم، من حيث السعي الدؤوب لتوجيه أكبر قدر من الضربات وتلقي أقل مستوى ممكن من الخسائر، مع الحفاظ على الاستمرار حتى تحقيق الأهداف.
وبمناسبة تحقيق الأهداف، فإن المعارك لا تدار لإرضاء الجماهير سوى في الكيان الصهيوني حين أصبحت قاعدة في يوم من الأيام للفوز بالانتخابات، حيث يجب أن يكون في سجل رئيس الوزراء حرباً أو معركةً كي يناظر بها.
وفي غير هذا الاستثناء، فإن المعارك تدار لتحقيق الأهداف التي فشلت السياسة في تحقيقها. ومن هذا المنطلق، لم يقم العدو الصهيوني بعمليتي الاغتيال الكبيرتين، في حارة حريك وطهران، كي يتخلص فقط من الشهيدين هنية وشكر، وهو كان قادراً على فعل ذلك قبل ومع بداية معركة طوفان الأقصى.
لكن مسار المعركة، وافتقاده لعنصر الاستمرارية، أجبراه على السير نحو خلط الأوراق وضرب أكثر من هدف بطلقة واحدة، مع الحفاظ على لعبة حافة الهاوية التي يمارسها نتنياهو من خلالها اقصى درجات الابتزاز من جميع الأطراف.
ففي عمليتي الاغتيال، رمى نتنياهو الكرة في ملعب المحور، وجلس مزهواً ينتظر إما رداً يستدعي جولة قتالية عنيفة حتى لو لم تنزلق نحو حرب شاملة وبذلك يكون روى غليله المشحون منذ أحد عشر شهراً، وإما صمتاً فيكون قد كسب نقطة مهمة تخوله الانتقال إلى مستوى أعلى من اللعبة، وإما مقايضة تنهي القتال لكن بشروطه لكونه المنتصر من وجهة نظره.
لكنه تلقى صفعة إبداعية من قبل الأمين العام لـ”حزب الله” بعد يوم واحد فقط من عملية الاغتيال، حين فصل السيد حسن نصر الله بين مسار الرد ومسار الإسناد، وأفقد نتنياهو أهم ورقة كان يراهن عليها، ومنذ ذلك اليوم بدأ يترقب الرد من طوق ناري يحيط به ولا يعلم كيف سيكون.
ومن دلالات ضعف الكيان، التي ظهرت في الفترة الفاصلة بين الاغتيال والرد بشكل واضح، هو عدم قدرته على المواجهة ولا التشخيص، سوى بالاستعانة بالقوى العظمى في العالم وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
ثم تلقى الرجل الصفعة الثانية في أسبوع الشهيد فؤاد شكر، حين استبق السيد نصر الله لعبة المفاوضات ووصفها بالكاذبة والمخادعة، ولكنه في نفس الوقت تعامل معها بإيجابية حذرة، مسقطاً مرة أخرى ورقة التصعيد من يد نتنياهو.
وحين أعطى الأمين العام لـ”حزب الله” إشارات واضحة على كيفية الرد من دون الإخلال بموازين المعادلات القائمة، إلا أن غموض الكيفية والتوقيت جعلا مسألة الرد مرهقة ومستنزفة للكيان.
لكن ما أن انتهت المفاوضات بطريقة سلبية، وجد “حزب الله” نفسه أمام تحدي الرد السريع لتحقيق مجموعة من الأهداف: أولها إظهار وقوف المحور وراء المقاومة في فلسطين بما تقرر، الأمر الذي يرسخ فكرة رأس الحربة الذي يجب أن لا يكسر. والهدف الثاني الضغط على الكيان في ذروة استنفاره مع جميع حلفائه الغربيين والعرب. والهدف الثالث إنهاء حالة الانتظار وتأثيراتها السلبية على الداخل اللبناني.
ومن دون الخوض حول قدرة المقاومة على اجتياز كل الدفاعات الجوية والرادارات، ولا قدرتها على إخفاء الرد حتى لحظة حصوله، رغم أهمية الأمر، لكن ثمة عنوانين أساسيين يحملان أهمية بالغة على المستوى الاستراتيجي:
العنوان الأول مرتبط بتبدل التعريف الاستراتيجي للكيان، الذي تحول إلى منظومة هزيلة، تستطيع طبعاً توجيه الضربات، لكن ستتلقى مثلها، الأمر الذي لم يكن ممكناً، ليس في عقود مضت، بل في سنوات ماضية. وكذلك أن يكون لدى المقاومة الجرأة والقرار في أن لا تسكت على أكبر ترسانة عسكرية في المنطقة ومع وجود حلفائها واستنفارهم، فهذا يعني أننا أصبحنا في زمن مختلف عما كنا عليه منذ سنوات قليلة، وأن الواقع الاستراتيجي الحالي تحول نحو الندية، حتى في العمق وليس فقط على الحدود.
العنوان المهم الثاني، أن المقاومة قامت برد مهين للعدو، بعدما جعلته مستنفراً لحوالي أربعة أسابيع، وفي نفس الوقت لم تضع في يده نقطة يستطيع استغلالها للرد على الرد أو للتصعيد، وهنا تكمن براعة من يدير المعركة.
وبالعودة إلى نقطة الأهداف، فإن المقاومة أفشلت كل أهداف عملية الاغتيال، ومن ثم أهانت العدو من خلال الرد الذي حصل، وأعادت رسم القواعد بالشكل الذي أعاد نتنياهو إلى يوم الثامن من تشرين الأول، حيث أنه لم يتمكن من استثمار أي تراكم عملاني عملت عليه قواته العسكرية طيلة الأحد عشر شهراً الماضية، وبذلك يمكن القول أن صدى صفعة الرد كانت أقوى من تفصيل الرد نفسه.
أخيراً، نتنياهو الذي لن يعطي الديموقراطيين هدية وقف الحرب، خصوصاً قبل حصول الانتخابات، ولا هو تحت الضغط الكافي لفعل ذلك، أصبح أكثر حيرة في كيفية استمرارها حتى حصول الانتخابات الأميركية، وإلى ذلك الحين يبقى الرد الإيراني والرد اليمني بالمرصاد.