| خضر طالب |
الكتابة عن سليم الحص فيها حمل ثقيل، لكنها مغامرة يمكن أن تساهم في الإضاءة على نموذج استثنائي عَبَر كصورة ملوّنة في كتاب تاريخ كلّه بالأسود والأبيض.
يمكن العثور على آلاف الصفحات على مواقع الانترنت التي تتناول سيرة هذا الرجل العصامي الذي نشأ يتيماً في عائلة فقيرة، فأنشأ لنفسه “صومعة” من المُثُل والقيم.
لكن “موسوعة” سليم الحص لا يتّسع لها تاريخ خمس حكومات، ولا نصف قرن من العمل السياسي. فهو كانت له في كل “زمن” بصمات تركها للذين يفتشون اليوم عن مفاهيم الدولة الحديثة، والشفافية، والمفاهيم الوطنية والأخلاقية…
يمكن وضع لائحة طويلة بتراث سليم الحص المتراكم.. لكن “الضمير” الذي كان لا ينام، لم يستطع إنعاش ضمائر كثيرة غارقة في سُبات عميق، أو سجينة مصالح، وحسابات، وحساسيات…
يندرج تراث سليم الحص تحت ثلاثة عناوين:
1 ـ نظافة عنقه من الدم.
2 ـ نظافة يده من الفساد.
3 ـ نظافة العقل من الإفساد.
بقي “الآدمي” منزّهاً طيلة مسيرته الشخصية، والسياسية، حتى صار موضع تشكيك أنه يعيش خارج العصر.. لكنها في الحقيقة “تهمة” فاضلة: سليم الحص عاش خارج عصره.. ربما خارج عصر لبنان، وربما خارج عصر “قادة” لبنان.. لكنه بالتأكيد خارج الزمن الذي نعرفه اليوم.
لم يلوّث سليم الحص يده بنقطة دم في الحرب، مع أنه كان قادراً على تأسيس ميليشيا تَرِث واقعاً مذهبياً كان شاغراً، وكان في الموقع الذي يسمح له بركوب الموجات المذهبيات.. لكنه كان نقيضاً لمفهوم السلاح غير الشرعي والميليشيات، فالدولة في نظره لها الأولوية على الذات، والمذاهب، والطوائف، والحسابات الشخصية.. ولذلك فقد استهدفته الميليشيات المسلحة، و”ميليشيات” المال، و”ميليشيات” العصبيات الطائفية والمذهبية.. حاولوا اغتياله بكل الوسائل: بالتفجير، والرصاص، والترهيب.. وحاولوا “اغتياله” بإغراءات المال، والسلطة، والزعامة… لكنه نجا منها كلّها.
لم يؤسّس سليم الحص شركات وهمية، ولا شركات عائلية، ولا شركات بأسماء وسطاء أو صورية.. ولم يوظّف المحسوبين عليه.. أصلاً لم يفتح سليم الحص داراً للمحسوبين والانتهازيين والمصفقين، وكان يفترض أن يريح ذلك الحسودين، فإذا به يصبح من المحسودين لأن الناس أحبّت هذا النموذج الذي بقيت يده ناصعة البياض من الفساد الذي يضرب في النخاع الشوكي للبلد، وقادته، وأمراء حروبه الصغيرة والكبيرة.. اما سليم الحص فكان يخوض حروبه الخاصة: حرب على الفساد.. حرب لبناء الدولة.. حرب لتنظيف الإدارة.. حرب لإصلاح المؤسسات.. حرب للإنماء والإعمار… وحرب على الحرب..
لم يفسد عقل سليم الحص، هو الذي استثمر في العقل حتى بلغ رأس السلطة التنفيذية في لبنان. لم يعبر إلى الحكم بسلطة المال، ولا بسلطة النفوذ الإقليمي، ولا بسلطة السلاح، ولا بسلطة الشارع… فقط بالعقل. كان رئيس الجمهورية الياس سركيس يبحث عن شريك في الحكم يشبهه من حيث نظافة الكف ورجاحة العقل والأخلاق… شاء القدر أن يجمع بين الرجلين في مرحلة دقيقة جداً من تاريخ لبنان.. بقي الياس سركيس، الرئيس التكنوقراط لـ”جمهوريات” لبنان. أما سليم الحص، فقد صار رئيساً لحكومة السياسيين والسياسة، وانتصر عليهم وعليها عندما فتح الطريق لأشخاص يشبهونه إلى الوزارات.. وكذلك إلى رئاسة الحكومة.
صنع سليم الحص “خلطة” خاصة بين السياسة والتكنوقراط، فصار زعيماً متوّجاً بالأولى من خارج التقليد، وصار بوابة في الثانية لكل عقل راجح يمكن أن يُساهم بأفكاره لخدمة مشروع معركة بناء الدولة المترهّلة حتى الانهيار.
لم يطمح سليم الحص لتتويجه زعيماً في لبنان وعلى اللبنانيين، أو على قسم منهم.. جلّ طموحه كان أن يحفر في صخر المتاريس المرتفعة، ويسقي الصحراء في خطوط التماس، لعلّ ذلك ينفع في حجب الرصاص.
صار سليم الحص نموذجاً لرجل الدولة.. وانهالت عليه تسميات الاحترام، ومسمّيات التقدير، وألقاب الدولة، حتى صارت الدولة شريكة له في طموحه نحو انتقالها من عصر التزلّف والاستتباع والتبعية، إلى عصر الكفاءة والاستثمار في العقول.
هل كان سليم الحص من البشر عندما كان البشر يقتلون بعضهم على الهوية في لبنان؟
أم كان سليم الحص من الملائكة الذين يحرسون لبنان في زمن الشدائد لمنعه من الاندثار؟
الأكيد أن سليم الحص كان من “الأخيار” الذين ساقهم القدر إلى مسار السياسة في لبنان، كي يصبح “إماماً” للسياسيين”.. “يقلّده” بعضهم، ويتتلمذ على يده بعض آخر، ويتّبعه آخرون باعتباره “السلف الصالح” في الحكم، والدولة، والسياسة، والاقتصاد، ونظافة الكف، والنزاهة…
صار سليم الحص تاجاً للسياسة في لبنان.. فتسابق اللبنانيون لتتويجه.. إلى أن انتصرت العصبيات أخيراً عليه، فاستسلم طوعاً لخيارات الناس عندما أُسرت العقول بالعصبيات، ولم يسبق في تاريخ لبنان، وكل العالم العربي، أن قدّم رئيس حكومة نفسه نموذجاً في القبول بالخسارة، والانحناء أمام الموجات المفتعلة، وهو على رأس السلطة التي أجرت الانتخابات!
تلك كانت غاية التضحية بالذات من أجل تثبيت المسار الديموقراطي.. لكن سليم الحص كان يردّد دائماً أن “في لبنان الكثير من الحرية، والقليل من الديموقراطية”.. رضخ لحرية الناس، على حساب الديموقراطية “الشهيدة”.. فكان “الشهيد” السياسي لمرحلة انتهت، وكان له شرف مغادرتها بعد أن انكشف البلد على مشروع الفتنة التي كانت ألدّ أعداء سليم الحص.
سليم الحص.. كان أيقونة لبنانية ثمينة، تمثل تلك الطموحات التي حفرها في العقول المتحررة بمواجهة العقول المتحجّرة… وستبقى بعد رحيله