| علي حيدر |
لأنه لم يكن بإمكان العدوّ الإقرار بما تعرّض له أمس بما يهشّم ما تبقّى من صورة ردع يحاول ترميمها، ولتفادي خيارات أشد وأقسى على صورة إسرائيل وأمنها القومي، شكّلت السردية المفضوحة التي اجترحها أمس حدثاً ينبغي التوقف عنده كونها شكّلت له «سلماً بديلاً» للانكفاء في مواجهة حزب الله هرباً من سيناريوات لا يطيقها. لكنها انطوت على مؤشرات تشير إلى الواقع الذي انحدرت إليه إسرائيل على المستويين الاستراتيجي والردعي. إذ رغم ما يمتلكه كيان العدوّ من قدرات تدميرية، لا تملك قيادته السياسية والأمنية الجرأة على ترجمتها الى خيارات عملياتية ولو من موقع الردّ. فيما كان حدث أقل بكثير من ردّ حزب الله، أمس، في زمن تفوّق المعادلات الإسرائيلية السابق، كفيلاً بأن يؤدي الى حرب إسرائيلية مدمرة.لم يكن بإمكان العدوّ الاعتراف بفشل عدوانه «الإحباطي»، والاعتراف بنجاح مسيّرات حزب الله في الوصول الى أهدافها في ضاحية تل أبيب واستهداف مقر الاستخبارات العسكرية الوحدة 8200، من دون أن يُلزم نفسه بردّ تناسبي يورّطه في تبادل ضربات تستهدف عمقه الاستراتيجي، وإمكانية اتساعها الى حرب إقليمية. لذلك لم يجد أمامه سوى اختراع سردية تبرّر له أمام الداخل وبعض الخارج التراجع عن تنفيذ التهديدات التي أطلقها قبل الردّ، والتكيف القهري مع الوقائع التي فرضتها المسيّرات والصواريخ.
ورغم أن كيان العدو لا تنقصه العقول المبدعة والخبراء، إلا أنه بدلاً من أن تشكل السردية الكاذبة مخرجاً له، فقد عمّقت مأزقه وكشفته أيضاً. فعندما تحدث عن آلاف الصواريخ التي كان يعدّها حزب الله لقصف الشمال والوسط، أقرّ بأن كل الضربات وكل الأساطيل لم تنجح في ردع حزب الله عن هذا الخيار. أضف أن ادّعاء هذا العدد الكبير من الصواريخ التي كانت معدّة للقصف كان ينبغي أن يؤدي الى عدد كبير من الشهداء وهو ما لم يحصل.
في كل الأحوال، فإن محاولة العدو، ومن يواليه، الترويج لسردية من هذا النوع لا يغيّر مجموعات حقائق ورسائل انطوى عليها رد حزب الله:
– لم ينجح العدوان الذي نفذه العدوّ فجراً ضد عدد من النقاط المنتشرة في الوديان في جنوب لبنان في إحباط ردّ حزب الله على العدوان الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية واستشهاد القائد الجهادي الكبير السيد فؤاد شكر وعدد من المدنيين. وجلّ ما يمكن أن يقوله إنه كان يمكن لردّ حزب الله أن يكون أشد وأقسى على العمق الاستراتيجي. لكن حتى هذا الادعاء أصبحت هشاشته واضحة وجلية، الى حد أن شخصيات وازنة في كيان العدو، من خبراء وإعلاميين، لم تقبل هذه الرواية، ومن بين هؤلاء رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، الرئيس الحالي لمعهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب اللواء تامين هايمن، الذي أشار إلى أنه في حال صحّ أن «حزب الله كان يوجه 6000 مسيّرة مسلحة نحو وسط إسرائيل، لكانت اشتعلت العاصمة بيروت»، في إشارة الى أن مثل هذا يعني فتح حرب ويستوجب رداً موازياً.
– الضربة الاستباقية المفترضة لم تنجح في تحقيق أهدافها. فوظيفة هذا النوع من الخيارات سلب الطرف المقابل القدرة على المبادرة أو الرد، وإلا يتحوّل الى عمل عقيم. واعتراف العدوّ بنجاح حزب الله في إطلاق مئات الصواريخ وعشرات المسيّرات، يعني أن الضربة الاستباقية لم تنجح حتى وفق السردية الإسرائيلية. هكذا تتجلّى حقيقة أن كل ما حاول العدوّ الترويج له كان مختلقاً، لكنه كان مضطراً إليه، لأن البديل منه كان أسوأ لجهة تهشيم صورته أمام جمهوره والخارج.
– لا تغيّر السردية الإسرائيلية من حقيقة أن حزب الله نفّذ قرار الردّ الذي توعّد به، وهو أمر ينطوي على الكثير من الرسائل والأبعاد لجهة شجاعة القرار وحكمته، واستعداده لمواجهة كل ما كان يمكن أن يترتّب عليه من تداعيات. وأن سقف الاعتداءات التي أراد العدوّ تكريسها باءت بالفشل. لأن الثمن المضادّ الذي فرضه حزب الله هو «ضاحية تل أبيب» (غليلوت) مقابل ضاحية بيروت. ولا ينبغي القفز فوق حقيقة أن فشل التهويل الأميركي والتهديد الإسرائيلي بشنّ حرب مدمرة على لبنان في أعقاب الرد، يشكّل متغيّراً إضافياً على طريق تعزيز موقع المقاومة في معادلة الردع حتى عندما يكون طرفها المقابل واشنطن وتل أبيب.
– لم يعد باستطاعة أجهزة العدوّ ومؤسساته تجاهل نجاح حزب الله في فرض معادلة ردّ غير مسبوقة، باستهداف هدف استراتيجي استخباري يتصل بالعدوان الذي شنّه في الضاحية. فحزب الله وجّه ضربة نقطوية لهدف نوعي استراتيجي استخباري (الوحدة 8200، هي أهم وأكبر الوحدات التابعة لجيش العدو)، تقع على بعد 110 كلم عن الحدود، ضمن المنطقة التي يُفترض أنها محصّنة بخطوط حمر لا تماثل الكثير من الخطوط الأخرى.
– من المهم التذكير بحقيقة أن بعض التحليلات كان يرجّح أن يحاول حزب الله استهداف هدف نوعي خارج منطقة تل أبيب تجنّباً لإحراج العدوّ وحشره لدفعه إلى ردود مضادّة قد تؤدي الى مواجهة عسكرية واسعة وربما الى حرب. لكن ردّ حزب الله في منطقة تل أبيب شكّل رسالة مدوّية وردعية كونه كشف أنه لن يتكيّف مع المعادلة التي حاول العدو فرضها، ومستعد لمواجهة أيّ تداعيات تترتب على ذلك مهما كان حجمها.
– بالموازاة، أثبت حزب الله من خلال ردّ حازم ومدروس وهادف أنه يدير خطواته العملياتية، ابتداءً ورداً، وفق استراتيجية تخدم الأهداف المرسومة مسبقاً. ويتجلّى ذلك في كون الردّ يتميّز، من حيث الماهية والعمق الجغرافي والدور، يما يجعله فاعلاً ومؤثراً ومؤسّساً لمعادلة ردّ وردع، وبما يخدم معادلة كون جبهة لبنان جبهة إسناد ودعم لغزة. ومن جهة أخرى، انطوى الردّ على مزايا إضافية، فهو جسَّد جرأة في القرار وتصميماً على مواصلة المسار العملياتي في المبادرة والرد، وحكمة لتفادي التدحرج الى حرب لا يريدها، لكنه مستعد لخوضها.
– تنفيذ حزب الله ردّه في ظل ذروة الاستنفار والجهوزية العملياتية للعدوّ وللجيش الأميركي في البحر والبر، يشكل تحدّياً عملياتياً غير مسبوق، ويؤكد أن تل أبيب ستبقى في حاجة دائمة الى الحضور العسكري الأميركي المباشر لحمايتها كلما قررت قيادة العدو الأمنية والسياسية تجاوز خطوط حمر محددة في مواجهة حزب الله.
ليس من الصعوبة تقدير المعضلة التي تواجهها قيادة العدو، بفعل الرد في «تل أبيب الكبرى»، لجهة الخيارات التي كان عليه أن ينتهجها، وانتهى في نهاية المطاف الى الامتناع عن التصعيد. إذ أدى ذلك الى كشف حقيقة استعداد كيان العدو للتصعيد في مواجهة حزب الله. وأسقط معها، حتى الآن، فرضية أنه كان ينتظر أيّ مبرر للدفع نحو حرب إقليمية. نتيجة ذلك، سيكون عليه العودة الى قواعد الاشتباك القائمة ما قبل عدوان الضاحية، وخصوصاً بعدما ثبت عقم الرهان على فعالية التهويل بالأساطيل والحرب المدمرة.