| علي حيدر |
أظهر حزب الله بعضاً من مقتضيات المرحلة الجديدة التي دخلتها المعركة بين المقاومة وجيش العدو إسناداً لغزة ودفاعاً عن لبنان، عبر الكشف عن بعض قدراته الاستراتيجية والصاروخية، من خلال فيديو «جبالنا خزائننا»، موجّهاً الرسائل ذات الأبعاد الاستراتيجية والعملياتية والردعية. وإذا كان ما تضمّنه الفيديو سيخضع لدراسة الخبراء والمختصّين في كيان العدو، على قاعدة أن الرؤية غير السمع، إلا أن توقيت الكشف لا يقلّ دلالة. لذلك، شكّل نشر الإعلام الحربي فيديو «عماد-4»، حدثاً بذاته، لتضمّنه مروحة من الرسائل في كل الاتجاهات.
في المضمون، قدَّم حزب الله للعدو عينة بسيطة من قدراته الاستراتيجية، ضمن سياق ردع العدو، وهي عينة جاءت لتخلط أوراق العدو، الذي يتصرف على أساس أنه يملك فكرة إجمالية عن هذه القدرات مع بعض التفاصيل هنا أو هناك، إلا أن حزب الله أراد أن يوجّه أنظار العدو إلى بعض تفاصيل القدرة بهدف تعميق الردع، ودفعه إلى تقليص أي خطأ في التقدير يورّط نفسه والمنطقة في خيارات عسكرية واسعة. وبما أن التجارب السابقة والمعطيات المتوفّرة تؤكد وجود اختلافات عميقة بين مؤسسات العدو وداخلها، حول الخيارات الواجب اتّباعها في هذه المرحلة، فإن هذا الكشف سيتحول أيضاً إلى أداة إقناع إضافية لأحد الأطراف حول محدودية جدوى أيّ خيارات متهوّرة قبل أو بعد ردّ حزب الله القادم على اغتيال القائد العسكري الشهيد فؤاد شكر.
على المستوى العملياتي، هدف فيديو الإعلام الحربي، إلى إفهام العدو بأن قدرات المقاومة الصاروخية والعسكرية، مُحصَّنة إلى حد أنها تشكّل تحدياً جوهرياً أمام جيش العدو حول كيفية التعامل معها، وتفرض نفسها على مؤسسة القرار في ظل محدودية نتائج أيّ خيار عدواني. ضمن نفس الإطار، يقدّم هذا الفيديو أيضاً معطى ملموساً حول قدرة حزب الله على الجمع بين «البقاء والنيران»، بمعنى أن هذه التحصينات توفّر لحزب الله الحفاظ على قدراته، قبل أو بعد الاستخدام، وفي الوقت نفسه مواصلة النيران في مواجهة التطور الهائل لدى العدو على المستوى التكنولوجي والدقة والتدمير والغزارة من البحر والجو والبر.
وبحسب تعبير أحد ضباط الاستخبارات العسكرية (أمان) السابقين، فإن حزب الله أراد إظهار قدرته على «الاستمرارية الوظيفية» في ما يتعلق بقدراته على إطلاق الصواريخ إلى العمق الإسرائيلي، وهو أهم شرط للتأسيس للردع.
من جانب آخر، يأتي هذا الكشف المدروس في مضمونه وتوقيته، ليُحفِّز قادة العدو على إطلاق خيالهم في توقّع ما يخفيه حزب الله من مفاجآت، ولتعزيز الشكوك لديهم بما يفترضون أنهم يعلمونه عن قدرات حزب الله. ولذلك عليهم أن يذهبوا بعيداً في فرضياتهم. وينبع هذا المفهوم من حقيقة أن حزب الله عندما يسمح بنشر هذا الفيديو وما تضمّنه، ينبغي الافتراض أن ما لم يتم كشفه أعظم بكثير، خاصة أنه حريص على التمسك بعقيدة المفاجآت التي تشكّل أحد أهم مداميك عقيدته العسكرية. لذلك يجمع حزب الله في أدائه بين الحفاظ على جوهر هذه المفاجآت، والكشف المدروس الذي يلبّي متطلبات صناعة المستقبل في هذه المعركة الممتدّة من غزة إلى مختلف ساحات محور المقاومة.
على مستوى التوقيت، يأتي هذا الكشف بعدما بلغت التطورات الميدانية والسياسية في فلسطين ولبنان والمنطقة مفترق طرق. وهو ما يفرض على قيادة العدو اتخاذ القرار بشأن خيارات حاسمة تؤسّس من خلالها لمسارات المستقبل. وبدا أن العدو اختار على حذر، الانتقال إلى ارتقاء مدروس ومغامِر في العدوان على لبنان، وظهر ذلك جلياً في العدوان على الضاحية الجنوبية، واغتيال القائد شكر، ثم عمد بعد ساعات إلى اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران. ويبدو أن العدو كان يهدف من خلال عملياته، إلى حشر حزب الله بين خيارات مفصلية، من ضمنها أن يضغط على الحزب من خلال تحذيره بأن ردّه سيؤدي إلى التدحرج نحو مواجهة كبرى، وهي المواجهة التي لا يريدها أيّ من أطراف المواجهة حتى الآن.
وقد راهن العدو على خياره، من خلال محاولة فرض قواعد جديدة في مواجهة حزب الله، ما قد يؤثّر على استمرار جبهة الإسناد، وأيضاً على مستقبل المعادلات الحاكمة للميدان في مواجهة حزب الله. ويمكن الانتباه، إلى أنه من منظور استراتيجي جامع، فإن كيان العدو يحاول أيضاً إعادة إنتاج صورة جديدة له، في وعي حزب الله ومحور المقاومة، خصوصاً أن الصورة تهشّمت في «طوفان الأقصى» والحرب التي تلتها. وهاجس العدو هنا، هو الإيحاء، من موقع الممارسة العملياتية، بأن إسرائيل أصبحت أكثر اندفاعاً ومغامرة واستعداداً للمخاطرة بالحرب، وأكثر استعداداً لتلقّي الردود ودفع الأثمان…
في المقابل، ينبغي قراءة رسائل فيديو «عماد -4»، كجزء من سلسلة خطوات وإجراءات أقدم عليها حزب الله، باعتباره مكمِّلاً لما سبقه، وتمهيداً لما سيليه أيضاً. وإذا ما كان حزب الله، أثبت للعدو وبالملموس عبر فيديوهات «الهدهد» دقة المعلومات المتوفرة لديه حول منشآت العدو الحيوية والاستراتيجية والعسكرية والاقتصادية، فإن قائمة هذه الأهداف تحتاج إلى قدرات خاصة لاستهدافها، وإلى إرادة تفعيل هذه القدرات أياً كانت الأثمان والتداعيات.
لذلك ليس تفصيلاً أن يأتي هذا الكشف بعدما حسم الأمين لعام لحزب الله السيد حسن نصرالله، قرار الرد على عدوان الضاحية، وبعدما بادرت الولايات المتحدة إلى خطوات متعددة، ردعية وتهويلية وسياسية، فحشدت المدمّرات وحاملات الطائرات من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي والبحر الأحمر وبحر العرب… وأطلق مسؤولوها مواقف حاسمة في الدفاع عن إسرائيل. كما عمدت إلى تزخيم مسار المفاوضات بهدف احتواء اندفاع حزب الله والجمهورية الإسلامية في إيران، للرد.
من هنا، تعدَّدت المواقف المضادة من قبل حزب الله، فقد أوضح نائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم أن مسار الرد على اغتيال شكر منفصل عن مسار وقف الحرب على غزة أو استمرارها. ولذلك فإن الرد آت في التوقيت الذي تختاره المقاومة. وهو الأمر الذي أكّد عليه أمس الأول، زعيم «أنصار الله» السيد عبد الملك الحوثي.
وأتى أيضاً عرض فيديو «عماد -4»، وما يعكسه من وجود قدرات نوعية يحسب لها العدو حساباً جدياً، بالتزامن مع زيارة مبعوث الرئيس الأميركي، عاموس هوكشتين، الذي دعا إلى تخفيف التصعيد (اقرأ: عدم الرد)، متجاهلاً الدماء التي سالت بفعل العدوان الإسرائيلي. وتنبع أهمية هذا الكشف من كون مفاعيل أي مواقف في مواجهة التهويل الأميركي والإسرائيلي، تنبع من استناد مطلقيها إلى عناصر القوة الميدانية. وبالتالي تكون المقاومة وفّرت أوراق قوة يمكن استخدامها في أي مباحثات لاحقاً، وذلك على أساس تسليم الآخرين، بأن لبنان ليس في موقع ضعيف، عليه تلبية مطالب الآخرين، وإنما يملك من القوة التي تسمح له بإحباط أهداف العدو وتجعله يندم على عدوانه.
مع ذلك، يأتي كشف هذا الجانب من القدرات ليؤكد أن حزب الله انتقل من مرحلة القرار بالرد، إلى التمهيد العملياتي لتنفيذه، عبر تعزيز قوة الردع التي تهدف إلى إحباط الرهان على أي خيار استباقي ولتجعل قادة العدو أكثر عقلانية في أعقاب الرد الآتي، وإذا ما أخطأ العدو التقدير، فإن حزب الله مستعدّ للمواجهة مهما بلغت التضحيات، وللتأكيد على أن خيارات حزب الله ليست بين الحرب الشاملة، والتسليم بالقواعد والمعادلة التي يحاول العدو التأسيس لها، وإنما لديه الإرادة والقدرة على الرد «القوي والفاعل والمؤثّر» وينقل كرة النار إلى طاولة القرار في تل أبيب وواشنطن.