كاثرين باور ـ پاتريك كلاوسون /
نظرة فاحصة على الأموال التي يمكن لإيران النفاذ إليها فعلاً وتأثيرها المحتمل على الاقتصاد الإيراني.
في الوقت الذي كانت تتأرجح فيه المفاوضات لإعادة تفعيل «خطة العمل الشاملة المشتركة» (الاتفاق النووي) من عام 2015 بين الانهيار والنجاح خلال الأيام القليلة الماضية، من الجدير تقييم ما يمكن أن تعنيه النتيجة بالنسبة لإيران من الناحية المالية. ولأغراض هذا التحليل، تتمثل الفرضية في سماح الاتفاق المُجدّد باستئناف رفع العقوبات بالكامل على غرار ما تم تنفيذه في أوائل عام 2016 عندما جرى رفع عقوبات مكافحة الإرهاب عن جهات فاعلة اقتصادية رئيسية أو تعليقها أو الإعفاء منها خلال رئاسة ترامب بموجب تراخيص. وفي ظل هذه الظروف، ستكتسب إيران قدرة معيّنة على الاستفادة من أصول “مجمدة”، والنفاذ إلى النظام المالي العالمي، وبيع النفط، والاستفادة من الإيرادات المحققة. لكن السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه هنا هو كم سيبلغ حجم الفائدة التي ستعود على إيران؟
الأصول “المجمدة”
فيما يتعلق بالمبالغ الكبيرة من الاحتياطيات الإيرانية التي لا يمكن التصرف بها حالياً لأسباب مختلفة، لن يتمكن النظام بالضرورة من استعمالها بالكامل. فالمبالغ المعنية هائلة. وفي أحدث توقعات اقتصادية إقليمية أصدرها “صندوق النقد الدولي” أشار إلى أن الاحتياطيات التي يمكن لإيران استخدامها تبلغ 12.2 مليار دولار بالمقارنة مع الاحتياطات المعلنة بقيمة 115.4 ملياراً. وورد في إحدى الحاشيات أن “صندوق النقد الدولي” يعرّف الاحتياطيات بأنها أصول “متاحة للاستخدام بسهولة وخاضعة لسيطرة السلطات النقدية” لأغراض ميزان المدفوعات.
ومن شأن إعادة إحياء الاتفاق النووي تحرير بعض هذه الأموال فقط. أولاً، يبدو أن بعض احتياطيات إيران بالعملة الأجنبية غير سائلة بحد ذاتها، وليست “مجمدة” بفعل العقوبات. وقبل التوقيع على «خطة العمل الشاملة المشتركة»، عندما كانت هذه الاحتياطيات الأجنبية تقدّر بأكثر من 100 مليار دولار، صرّح مسؤولو “المصرف المركزي الإيراني” بأن التوقيع على اتفاق نووي لن يحرر سوى 29 مليار دولار. فهم يعتبرون أن الجزء الأكبر من الأموال المتبقية هي إما (1) أموال مودّعة في مصارف صينية كضمان لتمويل مشاريع خاصة بأنشطة التجارة والاستثمار التي تجريها الصين في إيران (22 مليار دولار)، أو (2) استثمار غير سائل لـ “المصرف المركزي” في الشركة السويسرية “نفط إيران للتجارة الدولية” التابعة لشركة “النفط الوطنية الإيرانية” (25 مليار دولار)، أو (3) أصول عائدة لـ “المصرف المركزي الإيراني” في المصارف الإيرانية (10 مليارات دولار). وعندما انسحبت إدارة ترامب من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، وأعادت تطبيق العديد من العقوبات الأميركية في عام 2018، ذكرت وسائل إعلام إيرانية أنه تمّ حظر أصول بقيمة 40 مليار دولار تقريباً، والتي تقترب من إجمالي الأموال المحتجزة، التي وفقاً لبعض التقارير متواجدة في الصين (20 مليار دولار) وكوريا الجنوبية (7 مليارات دولار)، والهند (7 مليارات دولار) والعراق (6 مليارات دولار) واليابان (3 مليارات دولار) وأوروبا (3-5 مليارات دولار). وقد تكون الأرصدة الحالية حتى أقل من ذلك – على سبيل المثال، أفادت بعض التقارير أن إيران سحبت أموالاً في الهند مقابل واردات الأرز والسكر والشاي، متذرعةً بإعفاء العقوبات على التجارة في السلع الزراعية.
ثانياً، هناك مشكلة قابلية تحويل الأصول حيث أن معظم الأصول المحظورة (“المجمدة”) بسبب العقوبات تكون مقوّمة على الأرجح بالعملات المحلية. وعندما سمحت الولايات المتحدة لدول معيّنة بشراء النفط الإيراني، فرضت عليها إيداع إيرادات طهران من عمليات البيع في حسابات ضمان بالعملة المحلية التي لا يمكن استخدامها إلا لتمويل التجارة الثنائية. وخلال السنوات اللاحقة، كانت قيمة النفط الذي صدّرته إيران أكبر من قيمة وارداتها من هذه الدول، مما أدى إلى تراكم أرصدة كبيرة في حسابات الضمان المجمدة. لكن خلال الفترة التي رُفعت فيها العقوبات المتعلقة بـ «خطة العمل الشاملة المشتركة»، عندما كان يحق للدول تحرير هذه الأرصدة، واجهت إيران صعوبات لنقل هذه الأموال. فمعظم الأسواق الدولية تستخدم الدولار الأميركي لتحويل الأموال على الأقل كخطوة وسيطة، وهو ما حظرته الأنظمة الأميركية في هذه الحالة. وعليه، تطلّب تجنب الدولار إيجاد حلول صعبة (للالتفاف على العقبات) تَمثلت عموماً بإجراء تعاملات صغيرة فقط.
النفاذ إلى النظام المالي الدولي
لكي تتمكن إيران من النفاذ إلى كافة الأصول المحررة أو الإيرادات النفطية، سيتعين عليها إعادة العلاقات المصرفية وغيرها من أنظمة تدفق الأموال التي تُمَكِّن البلدان من نقل هذه الأموال بسهولة. ومع ذلك، واجهت طهران صعوبات للقيام بذلك بعد تنفيذ «خطة العمل الشاملة المشتركة» للمرة الأولى، رغم الجهود الأميركية لتوضيح العقوبات وتسهيل إعادة بناء العلاقات المصرفية. فقد كانت العديد من المصارف حذرة من العقوبات غير النووية المتبقية، وقد يكون الجو السائد مماثلاً في حال استئناف العمل بالاتفاق – وحتى لو رفعت واشنطن العقوبات غير النووية التي فرضتها إدارة ترامب (على سبيل المثال، تصنيف «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني كـ “منظمة إرهابية أجنبية”)، قد تكون المصارف غير راغبة في التعامل مع العقوبات المستمرة المتعلقة بقضايا الإرهاب وحقوق الإنسان والصواريخ. وعلى نحو مماثل، قد يبقى «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب بموجب سلطات عقوبات أخرى حتى لو جرى حذف تصنيفه كـ “منظمة إرهابية أجنبية”.
وساور القلق أيضاً مؤسسات مالية وشركاء تجاريين آخرين إزاء مخاطر كثيرة مرتبطة بإيران غير العقوبات، على سبيل المثال انعدام شفافية الحكومة، وعدم جعلها القطاع المالي متماشياً مع المعايير التنظيمية الدولية، واعتمادها منذ فترة طويلة على ممارسات مخادعة لتنفيذ أنشطة مالية مشروعة وغير مشروعة. وقد دفعت هذه المشاكل بـ”مجموعة العمل المالي” إلى إصدار تحذيرات عديدة صارمة على مرّ السنين. كذلك، لم تلتزم إيران بالقانون الأميركي المعروف باسم “قانون الامتثال الضريبي للحسابات الأجنبية” وبقوانين مماثلة أصدرتها دول أخرى، والتي تجعل المصارف الأجنبية مسؤولة إذا لم يتم دفع الأموال الضريبية الأجنبية لمئات الآلاف من المواطنين الإيرانيين الذي يحملون جنسية مزدوجة. علاوةً على ذلك، تواجه المصارف الدولية قيوداً متزايدة على التعاملات مع المؤسسات المالية التي تعاني من نقص في رؤوس أموال وغير شفافة مثل جميع المصارف الإيرانية تقريباً – وهو نهج يتوافق مع الاتجاه الأوسع نطاقاً للتخلص من المخاطر والذي تبنته العديد من الشركات الغربية في السنوات الأخيرة.
وسيتعين أيضاً على أي شركة تقرر تحمل التكاليف الهائلة المرافقة للتوصل إلى وسيلة تتيح مزاولة الأعمال مع إيران، دراسة احتمال عودة رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض في عام 2025، مما قد يؤدي إلى إعادة فرض عقوبات مالية واسعة النطاق. وفي حال منح إيران النفاذ إلى النظام المالي الأميركي، وهو أمر غير مرجح، يجب على المرء أن يضع في اعتباره أن ضحايا [الإرهاب] حققوا مليارات الدولارات من أحكام صدرت بحق طهران بسبب دعمها المادي للإرهاب، لذلك لن يتوانى محامو أولئك الضحايا عن محاولة الحصول على أي مبالغ مالية تنتقل عبر المصارف الأميركية.
بيع النفط واستخدام الدخل
شهدت إيران أساساً نمواً كبيراً في صادراتها النفطية خلال العام الماضي. فقد قدرت “إدارة معلومات الطاقة” الأميركية أن صادراتها لعام 2020 (بما فيها المكثفات) وصلت إلى 0.4 مليون برميل يومياً، بينما أشار تقرير لوكالة “رويترز” الصادر في 22 شباط/فبراير أن تكون صادراتها قد تراوحت بين 1.0 و1.2 مليون برميل يومياً في كانون الأول/ديسمبر 2021. ووفقاً لبعض التقارير تتجه معظم هذه الصادرات إلى الصين.
وبالنسبة لإيران، وعلى الأقل على نفس القدر من الأهمية، يبدو أن تجارها قد ابتكروا المزيد من الأساليب لاستلام إيرادات هذه المبيعات، بما فيها المعاملات القائمة على مبدأ النفط مقابل السلع التي يسهلها نظام النافذة الواحدة الذي يعتمده “المصرف المركزي” – وهو أساساً ترتيب مقايضة. وبفضل الشروط المتشددة في أسواق النفط العالمية، من المرجح على ما يبدو أن يتحسن النفاذ إلى هذه الإيرادات بشكل أكبر هذا العام بغض النظر عما يحدث مع «خطة العمل الشاملة المشتركة». ومن المرجح أن يدفع التجار التواقون إلى الحصول على النفط ثمناً جيداً لقاءه وأن يجِدوا حلولاً للمشاكل التي تواجه إيران في النفاذ إلى الأموال.
وفي حالة نجاح محادثات «خطة العمل الشاملة المشتركة»، ستكون إيران في وضع جيد يُمكّنها من مضاعفة حجم صادراتها من النفط وبشكل سريع. واعتباراً من شباط/فبراير، قدرت شركة “كبلر” أنه لدى إيران 87 مليون برميل مخزنة في البحر، بينما توقعت شركة “فاكتس غلوبال إنرجي” أن يكون مخزونها البري عند 85 مليون برميل، بما فيها 25 مليوناً في الصين (على الرغم من أن التقديرات الأخرى كانت أقل من ذلك). وبفضل هذه الكميات المخزنة ستتمكن إيران من زيادة صادراتها في غضون أسابيع من التوصل إلى اتفاق. وخلال الأشهر التالية، ستتمكن على الأرجح من التوسع بشكل أسرع مما كانت عليه في عام 2016، حتى عندما زادت إنتاجها بمقدار 300 ألف برميل في اليوم في غضون ثلاثة أشهر تقريباً وبواقع 700 ألف برميل في اليوم في غضون عام أو أقل. أما “أس أند بي غلوبال”، فتتوقع ارتفاع الصادرات بمقدار 1.5 مليون برميل يومياً في غضون 9 أشهر من تاريخ توقيع الاتفاق، رغم أن هذا الرقم يمثل الحد الأقصى للتقديرات. ونظراً إلى هذا المزيج من الأحجام الكبيرة والأسعار الفعلية الأعلى بكثير (بسبب التخفيضات الأقل حجماً وارتفاع أسعار السوق العالمية)، ستتمكن إيران من زيادة دخلها اليومي من النفط بثلاثة أضعاف بالمقارنة مع مستويات عام 2021، والتي كانت أساساً أعلى بكثير من مستويات عام 2020.
الخاتمة
على الرغم من خيبة أمل طهران بشأن المكاسب الاقتصادية المحدودة التي حققتها مباشرة من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، إلا أنها التزمت بالاتفاق إلى ما بعد انسحاب الولايات المتحدة منه عام 2018 (على الرغم من أنها انتهكت منذ ذلك الحين العديد من بنود «خطة العمل الشاملة المشتركة»). وتشير هذه السابقة إلى أنه حتى المزايا الاقتصادية المحدودة قد تكون كافية للحفاظ سويّة على اتفاق متجدد – أو، بدلاً من ذلك، رؤية إيران فوائد تتجاوز التأثير الاقتصادي.
وبغض النظر عما يحدث بشأن «خطة العمل الشاملة المشتركة»، فإن الاقتصاد الإيراني مهيأ لتحقيق نمو كبير، إن لم يكن مذهلاً، خلال الأشهر المقبلة. وقبل حدوث التغيرات الأخيرة في ظروف النفط العالمية، توقّع “صندوق النقد الدولي” نمو “الناتج المحلي الإجمالي” الإيراني لعام 2022 بنسبة 2 في المائة. وإذا تمّ جمعه مع متوسط نمو بلغ 3 في المائة خلال العامين الماضيين، تكون طهران قد سجلت نسبة 95 في المائة من المعدل التي كانت عليه قبل أن تتسبب حملة “الضغط الأقصى” التي شنتها إدارة ترامب بركود بين 2018 و 2019 مما أدّى إلى تراجع الاقتصاد الإيراني بنسبة 12.4 في المائة. ومن المفترض أن ترتفع تقديرات النمو لهذا العام مع ارتفاع دخل النفط – على الرغم من أن أي نمو مستدام يتجاوز 3٪ من المحتمل أن يكون مقيداً بدون الوصول إلى الأسواق العالمية. وفي كافة الأحوال، يبدو أن الولاية الحالية للرئيس ابراهيم رئيسي (2021-2024) ستشهد نمو أسرع لـ “الناتج المحلي الإجمالي” الفعلي من المعدل السنوي الذي بلغ 1.2 في المائة والمسجل خلال عهد سلفه. فولاية الرئيس السابق حسن روحاني (2013-2021) بدأت وانتهت بفترات ركود حاد نجمت عن العقوبات، مما أبطل إلى حد كبير طفرة النمو البالغة 13.8 في المائة التي حدثت في العام الإيراني 2016/2017 بعد دخول «خطة العمل الشاملة المشتركة» حيز التنفيذ.
وفي ضوء هذه البيانات، يبدو من غير المرجح أن يعزو المتشددون الإيرانيون النمو المتوقع إلى استئناف العمل بالاتفاق النووي – وقد يكون من الصعب إقناع المواطنين الإيرانيين بأن المتشددين مخطئون. بالإضافة إلى ذلك، من غير المرجح أن تتلاشى حدة الصعوبات التي واجهها عامة الناس في إجراء عمليات شراء من الخارج ودفع أسعار أعلى لقاء سلع أجنبية محدودة طالما أن نفاذ البلاد إلى النظام المالي العالمي يبقى محدوداً. واكتسب روحاني تأييداً سياسياً محلياً في عام 2015 عندما قال إن المشكلة الأساسية لإيران هي موقف المتشددين من الملف النووي الذي تسبب بفرض عقوبات عليها جعلتها دولة فقيرة. واليوم، لا يزال بالإمكان سماع أولئك الإيرانيين الذين يريدون علاقات أفضل مع الغرب، لكنهم سيجدون حالياً صعوبة أكبر في استخدام «خطة العمل الشاملة المشتركة» كدليل على أن التعاون يحقق فوائد اقتصادية أكثر من المواجهة.