/ خلود شحادة /
أطل رئيس مجلس النواب نبيه بري على جمهوره، حاملاً في جعبته برنامجاً لانتخابات ستجري في ظل أصعب مرحلة يمر بها لبنان في تاريخه.
ليس سهلاً ما يمرّ به لبنان هذه الأيام، وإن كان “الأستاذ” متمرّساً في مراحل عصيبة عبرها البلد. فالذي عايش الحروب الأهلية، والاجتياحات الاسرائيلية، والانقسامات الداخلية، والمشاريع الخارجية، وخطوط التماس العسكرية والسياسية والطائفية والمذهبية. ونجح في أن يتجاوزها جميعاً بأقل قدر من الخسائر، وأعلى مستوى من المسؤولية التي يعترف له بها خصومه قبل حلفائه ومحبيه، بإمكانه ان يكون عراب الحلول.
لكن ما يؤرق رئيس مجلس النواب اليوم، هو انعكاس هذه الأزمة وتداعياتها على الشعب اللبناني الذي يصارع الانهيار من جهة، واستثمار بعض الجهات في أوجاعه من جهة أخرى.
في أرشيف نبيه بري، الكثير من الصور التي يظهر فيها بين متاريس الحرب، حاملاً للسلاح، ومدرباً عسكرياً لآلاف المقاتلين، الذين التحقوا بقوافل المقاتلين ضد العدو الإسرائيلي في أوج الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة العربية.
في ذاكرة بري، لا تغفى تلك الذكريات، رفاق كثر عرجوا نحو الشهادة في سبيل تحرير لبنان، كل شبر من لبنان، من الاحتلال الإسرائيلي الذي بقي جاثماً على صدر الجنوب 22 سنة (1978 ـ 2000).
وما أشبه الأمس باليوم، يقول من يقارن مرحلة الثمانينات بأيامنا هذه.
السلام مع العدو الإسرائيلي، والذي كان باكورة مشروع التمدد الصهيوني في المنطقة العربية، وعرابه أنور السادات، يكمل طريقه اليوم في دول عربية شتى. إلا أن الفارق الوحيد هو أن قرار السلام اليوم أصبح انجاز يحتفى به.
وقوى “السلام” المزعوم، تكاتفت، لمواجهة قرار “المقاومة” المحتوم. لهذا، ربما، استشعر بري الخطر المحدق بلبنان على صعد عدة.
لم يقدم الرئيس نبيه بري في خطابه، برنامجاً انتخابياً تقليدياً، رغم أنه وضع العديد من الأمور الحياتية والمعيشية على سلّم الأولويات.
في قراءة ما بين سطور كلماته، يظهر أن شيئاً ما يشغل بال نبيه بري على لبنان “الوطن”.
“رادار” بري، الذي يستشعر مسبقاً الأخطار المحدقة بلبنان، يلتقط إشارات يبدو أنها تشغل باله، ولهذا قفز فوق العناوين الانتخابية، ليطرح مشروعاً وطنياً، لأنه لا معنى لأي مشاريع انتخابية في ظل الخوف على الوطن.
“بالوحدة أمل”، شعار ليس عبثاً تم اختياره. بري، المدرك جيداً لخطورة المنحنى الذي يمر به لبنان، يعرف مدى دور “الوحدة” في ردع أي خطر يطرق مستقبل لبنان واللبنانيين.
ورئيس حركة “أمل”، الداعي الى كظم الغيظ، خصوصاً بعد مجزرة الطيونة، أخبر أبناء تنظيمه، أن تلك القوة والصلابة يحتاجها لبنان عند حدوده مع فلسطين المحتلة، للدفاع عن الأرض المقدسة. فهل كان قوله بمثابة “أمر عمليات” يقول: “تأهّب.. الحرب قريبة”؟ أم هو مجرّد تذكير بأن دور حركة “أمل” في المقاومة لم ينته مع تحرير العام 2000?
في برنامج الرئيس بري الانتخابي ـ الوطني، وقفة عند ترسيم الحدود البحرية، مع ما يعنيه هذا الملف من حساسية خاصة لدى رئيس المجلس الذي فاوض الأميركيين 10 سنوات وصولاً إلى إنجاز “اتفاق الإطار”، قبل أن ينتقل النقاش التفصيلي إلى رئاسة الجمهورية، بناء على طلب الرئيس ميشال عون. طوّق الرئيس بري الجدل حول “الخطوط البحرية” ووضع خطّاً فيصلاً في هذا السياق: لا تنازل عن “كوب ماء” من حقوق لبنان البحرية المشروعة، عبر التفاوض غير المباشر، حتى لا “تزل القدم” اللبنانية نحو تفاوض مباشر، أو تقديم الثروة اللبنانية على طبق المصالح والحسابات، وهو يخشى “سرقة الرزق” من قبل العدو الإسرائيلي، تحت تهديد “السلاح”، أو “الحصار”، أو “العقوبات”.
داخلياً، سمّى الرئيس بري الأشياء بأسمائها، عندما اتهم الخارج، بأنه يعمل على الاستثمار بهذا الاستحقاق لتغيير وجه لبنان الحقيقي وهويته وخياراته وثوابته.
يستشعر بري، بقوة، شرارات الفتنة التي تشعلها قوى خارجية بزخم مادي، وبـ”ترحيب” داخلي من “بعض” القوى، وهو الذي أطفأ شرارات الفتنة بعد مجزرة الطيونة.
لا يغيب عن بري عتب بعض مؤيدي حركة “أمل”، وإحباطهم، وعدم رضاهم، بسبب التغيير الخجول في لائحة المرشحين عن الحركة الذي اقتصر على أربعة أسماء فقط. كانوا ينتظرون من رئيس “أمل” إفساح المجال لوجوه جديدة، ولجيل الشباب، كي يكون لهم دور في مستقبل حركة “أمل” لتجديدها ومتابعة رسالتها، وكذلك المساهمة في تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية التي أنهكت المجتمع اللبناني عموماً والبيئة الشيعية ضمناً.
لكن بري، اليقظ لحساسية المرحلة، يدرك جيداً أن “التغيير الشعبوي” لإرضاء الساحة الحركية بأسماء جديدة، مطلوب وضروري، لكن المرحلة التي يمرّ بها لبنان فيها “طحن عظام”.
التحوّلات الكبرى دولياً واقليمياً، وانعكاساتها الخطيرة على الواقع اللبناني، بمختلف جوانبه، تحتّم اختيار أسماء لديها من الخبرة السياسية ما يؤهلها لخوض نزاعات المرحلة، ويجب أن تكون من قلب المعترك السياسي، و”محنّكة” في زواريب السياسة اللبنانية وتعقيداتها.
لكن برّي، لا يفوته الهمس للمقربين منه، بأنه سيبدأ العمل الجاد بعد الانتخابات، لضخ دم جديد في قيادة الحركة، لتأهيل جيل جديد يتسلّم تدريجياً قيادة الحركة لمتابعة مسيرة الإمام موسى الصدر.
هل هذا وعد انتخابي لإطفاء الاعتراضات الصامتة وتهدئة الانفعالات التي يتوقّعها بري على عدم إحداث تغيير في تمثيل حركة “أمل”؟
ربما يكون ذلك صحيحاً لو كان وعد بري علنياً.. لكن هواجس بري الوطنية تتقدّم على ما عداها في هذه المرحلة، ولذلك اعتمد الهمس في وعد التغيير، لأنه في زمن “الحروب الكبرى” لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.