| فؤاد بزي |
في عام 2024 ضاعفت الدولة حصّة وزارة الصحة من الموازنة العامة 5 مرات مقارنة مع سنوات ما قبل الأزمة، إذ زيدت إلى 40.5 ألف مليار ليرة، أي ما يوازي 452.5 مليون دولار، ما أعاد موازنة وزارة الصحة إلى مستويات قريبة مما كانت عليه في عام 2018، لكنّ ذلك لم يُعد نسب التغطية إلى ما كانت عليه، فالوزارة عمدت إلى اقتطاع واسع من الأعمال الطبية التي كانت تغطيها، أي إن الاستشفاء بات محصوراً بأعمال طبية معينة، فيما لا زال المريض يدفع من جيبه الخاص نسبة وازنة من فاتورة الاستشفاء
في عام 2018، بلغ عدد الذين حصلوا على التغطية الاستشفائية من وزارة الصحة نحو 320 ألف مريض في السنة. يومها كانت موازنة وزارة الصحة تبلغ 2.72% من الموازنة العامة، وكان إنفاق المرضى من جيبهم الخاص يصل إلى 32% من مجمل الفاتورة الاستشفائية. أما في موازنة عام 2024، بلغت حصّة وزارة الصحة من الموازنة العامة 13.12% (سبب ارتفاع النسبة هو انكماش حجم الموازنة من 17 مليار دولار إلى 3.5 مليارات دولار)، لكنّ إنفاق المرضى من جيبهم الخاص كان قد سجّل في نهاية عام 2023 نحو 90% من مجمل الفاتورة، بحسب دراسة صادرة عن الجامعة الأميركية في بيروت في آب 2023 بعنوان «الرفاهية المتزايدة للتغطية الصحية في لبنان». (يعرّف البنك الدولي مصطلح «الإنفاق من الجيب»، أو «out of pocket» على أنّه الإنفاق المباشر الذي تقوم به الأسر بشكل مباشر لتأمين الخدمات الصحية، سواء كانت الخدمات هي فواتير المستشفيات أو بدلات المعاينات الطبية أو ثمن الأدوية). وهذا ما يثير سؤالاً أساسياً: هل أدّت زيادة موازنة الوزارة إلى إعادة نسبة التغطية الاستشفائية إلى ما كانت عليه قبل الأزمة؟
عملياً، لم تعمد السلطة إلى زيادة المبالغ المخصّصة للإنفاق على التغطية الصحية عبر وزارة الصحة قبل عام 2022. أي إن التغطية كانت تتدنى بشكل دراماتيكي قياساً على المسار الانحداري لقيمة الليرة والتضخّم المحلي والعالمي لأسعار الصحة.
ففي عام 2020 خُصّص لوزارة الصحة اعتمادات بقيمة 742 مليار ليرة، وهو رقم قريب ممّا كانت عليه الاعتمادات في عام 2018، إذ كانت قيمتها 720 مليار ليرة. ثم في السنة التالية، أي 2021، حصلت الوزارة على ما قيمته 692 مليار ليرة. ثمة أمران في هذه المسألة؛ أوّلهما أنّ القيمة الفعلية لهذه الموازنة بالدولار كانت تبلغ 480 مليون دولار ثم أصبحت 72.5 مليون دولار، وهذا لا يتناسب أبداً مع الأكلاف الصحية (الدولار الصحي) التي يعدّ ثلثيها مستورد ويُدفع ثمنها بالدولار، بينما ثلثها فقط بالليرة بحسب هارون. أما الأمر الثاني، فهو يتعلق بأن الوزارة هي عبارة عن صندوق ضامن يغطّي كل الذين ليس لديهم تغطية صحية استشفائية، أي أكثر من 51% من الشعب اللبناني وفقاً للأرقام الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي.
هكذا، فقدت الوزارة قدرتها على تأمين التغطية الاستشفائية في المستشفيات الخاصة، وباتت أكثر اعتماداً على المستشفيات العامة التي استحوذت في عام 2022 على 72% من موازنة الوزارة. إلا أن ذلك لا يعني أن هناك أوضاعاً استثنائية في المستشفيات العامة تتيح لها زيادة نسبة التغطية، كما أن قدرتها على استقبال المرضى محدودة، ففي لبنان نحو 28 مستشفى عاماً مقارنة مع 118 مستشفى خاصاً.
طبعاً، الجزء الأساسي من النقاش يتعلق بالكلفة المدفوعة مقابل جودة الخدمة. فمع تدنّي التغطية الحكومية كمّاً وارتفاعها من جيوب المرضى، بدأت تظهر بوضوح علامات التدنّي نوعاً. وهذا الأمر استمرّ في عام 2023 إذ رُصدت اعتمادات في وزارة الصحة بقيمة 4450 مليار ليرة، أي ما قيمته 50 مليون دولار. أما في 2024، فإن «موازنة الاستشفاء حدّدت بمبلغ يساوي 244 مليون دولار» وفقاً لرئيس دائرة المستشفيات والمستوصفات في الوزارة هشام فواز، توقفت الوزارة عن تغطية عدد من العمليات الطبية التي يصفها بـ«غير المؤثرة على حياة المريض، كإزالة بيت الشعر أو اللحمية في الأنف»، وأعطت في المقابل أولويات لإجراءات طبية أخرى.
ويشير فواز إلى أن «طلبات الاستشفاء عادت بقوّة»، لافتاً إلى «محاولة الوزارة افتتاح أقسام جديدة في المستشفيات الحكومية للتخفيف من الأكلاف». وتتعزّز الصورة مع تأكيد نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون، عودة المستشفيات إلى علاج المرضى على حساب الوزارة، إنّما «مع أعباء إضافية تقع على عاتق المريض». وينفي فواز أن تكون الوزارة قادرة على إعادة إنتاج نسب التغطية الصحية كما كان عشية الأزمة، إذ أن الارتفاع في الموازنة يعود جزئياً إلى أن «جزءاً كبيراً من موازنة الصحة مخصّص لسداد سلف عن السنوات الماضية». ويؤكد هارون ما قاله فواز، إذ إن الوزارة «لم تعد تغطي اللوازم الطبية الإضافية المرافقة لبعض الأعمال الجراحية»، إضافة إلى أن «أكلاف 2018 لا تصلح لتطبيقها في 2024 بسبب تضخم الأسعار عالمياً».
الواقع الذي أُنتج بفعل انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار، والتضخّم المحلي والمستورد، عمّق تشوّهات السياسات الصحية التي كانت معتمدة. «ففي لبنان أصبح المرض أمراً مكلفاً وعلاجه غير مقدور عليه» بحسب دراسة «الرفاهية المتزايدة للتغطية الصحية في لبنان». ويأتي ذلك رغم إعادة ضخّ الأموال الحكومية، إذ «لا تغيير يُذكر في التغطية الصحية في المستشفيات التي تتذرّع بكلفة المستلزمات الطبية وبالتضخم العالمي للأسعار، لرفع فواتيرها والامتناع عن تطبيق التعريفات التي أقرّتها وزارة الصحة. واللافت أن الانهيار لم يدفع الحكومة إلى تعديل سياساتها الصحية بشكل جذري وملائم، بل واصلت التركيز على إبقاء التغطية متعدّدة الجهات بمستويات تغطية متفاوتة ومتناثرة الكلفة، لذا بدلاً من اللجوء إلى التغطية الصحية الشاملة المموّلة من الخزينة، واصلت الحكومة التركيز على دعم الصناديق المتعدّدة بشكل استنسابي لتقديم الخدمات الاستشفائية والدواء.
نصف اللبنانيين بلا تغطية صحية
تعدّ التغطية الصحية في لبنان تجارة رائجة ومربحة. ورغم أكلاف عقود التأمين الصحية العالية التي تمّت دولرتها بالكامل، ارتفعت نسبة اللبنانيين الحاصلين على تأمين صحي خاص من 2.6% قبل الأزمة إلى 10% من الشعب اللبناني، وفقاً لدراسة بعنوان «الرفاهية المتزايدة للتغطية الصحية في لبنان»، كما بلغت نسبة الذين ليس لديهم أي نوع من التغطية الصحية، نحو 46% من اللبنانيين، وهذا ما يدفع بنحو نصف الشعب اللبناني إلى الاعتماد على تقديمات وزارة الصحة للاستشفاء والحصول على أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية.
علماً أنّ هناك 8 صناديق ضامنة تابعة مباشرة للحكومة، فضلاً عن الصندوق الوطني الضمان الاجتماعي الذي يغطي 25% من اللبنانيين، و5% تغطّيهم الطبابة العسكرية والصناديق الصحية التابعة للأجهزة الأمنية المختلفة.
الوزارة تشتري الدواء لكل الصناديق الضامنة
يقول رئيس دائرة المستشفيات والمستوصفات في الصحة هشام فواز أنه جرى تضمين الاعتمادات الملحوظة لأدوية الأمراض المزمنة والمستعصية «عمليات شراء لكلّ الصناديق الضامنة الأخرى كالضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة وغيرهما، ما يضاعف أرقام موازنة الوزارة من دون أن يكون مرضى الصحة هم المستفيدون مباشرة». وتصل كلفة الأدوية في موازنة عام 2024 إلى 17 ألف مليار ليرة، أي ما يوازي 190 مليون دولار، وما نسبته 42% من موازنة الوزارة التي ستنفق عبر مناقصات لشراء هذه الأدوية.