| جوني منيّر |
من المنطقي أن تُجري الأوساط الديبلوماسية المراقبة ربطاً بين حادثة إطلاق النار على السفارة الأميركية في عوكر وبين مشروع وقف إطلاق النار الذي يحمله الرئيس الأميركي في غزة، والذي يريد أن يتوّج به القمّة التي سيعقدها مع نظيره الفرنسي.
ولا شك في أنّ الدوائر الأميركية المعنية ستعمل على فكفكة كافة الزوايا المبهمة، لاستنتاج فحوى الرسالة التي تمّ إرسالها عبر «صندوق بريد عوكر»، والأهم هوية الجهة التي أرسلتها.
عندما حزمت الإدارة الأميركية أمرها ومارست أعلى درجات ضغوطها وطرحت مشروعها حول وقف إطلاق النار، قد تكون أيقنت أنّها دخلت منطقة خطرة وأضحت وسط حقل ألغام الشرق الأوسط.
ولم يعد مخفياً أنّ الرئيس الأميركي الذي يخوض معركة انتخابية صعبة وقاسية، عانى كثيراً من مراوغة وألاعيب نتنياهو الرافض لإنهاء الحرب، والساعي إلى استهلاك كثير من الوقت لحسابات تتعلق بالانتخابات الرئاسية الاميركية والتي تتقاطع فيها مصالح نتنياهو ودونالد ترامب. وهذا الأخير يركّز حملته على ضعف بايدن وتراجع الحضور الأميركي على المسرح العالمي. ولذلك تحمل حملته شعار «لنعيد أميركا قوية».
وليس سراً أنّ ثقة بايدن بنتنياهو شبه معدومة. ولذلك وبعد التقلّبات السياسية المتعددة في مواقفه، طلب بايدن من رئيس الحكومة الإسرائيلية أن يكتب هو اقتراحه لوقف إطلاق النار، ما يجعل من المستحيل على نتنياهو الإنقلاب على مشروع كتب هو تفاصيله.
وعلى رغم من ذلك، بقيت واشنطن حذرة بسبب المعارضة العنيفة لليمين المتطرّف. ولم تنس واشنطن أنّ هذا الفريق نفّذ منذ ما يقارب الثلاثين سنة، الاغتيال السياسي الوحيد في حق رئيس الحكومة يومها إسحق رابين، حامل مشروع التسوية العربي ـ الإسرائيلي، والذي كانت ترعاه الولايات المتحدة الأميركية مباشرة. وهي لم تنس كذلك مجزرة قانا التي نفّذها الفريق عينه من خلال موالين له داخل الجيش، بهدف إسقاط شيمون بيريز الذي كان عازماً على المضي قدماً لاستكمال ما كان بدأه رابين.
لأجل ذلك، طلبت الإدارة الأميركية بحزم من الحكومة الإسرائيلية عدم رفع مستوى التصعيد العسكري الحاصل مع «حزب الله»، حتى ولو جاءت المبادرة منه، على الأقل قبل إتمام الصفقة التي يحملها بايدن. وقيل إنّه تمّ إيكال وزارة الدفاع الأميركية مهمّة الرقابة الصارمة.
لكن مصدر القلق الأميركي من الشغب على «مشروع بايدن» لا ينحصر فقط باليمين الإسرائيلي. ذلك أنّ ثمة إشارات معارضة صدرت من بعض أجنحة حركة «حماس» إضافة الى ظهور انزعاج إيراني، كون الإتفاق يهدف في جوهره الى إبعاد إيران عن الساحة الفلسطينية وإيكال «حماس» لمرجعية قطر.
وما عزز هذه القراءة ارتفاع منسوب الحماوة في مختلف الساحات المفتوحة في المنطقة، بدءاً من بحر الخليج وإطلاق الحوثيين صواريخهم في اتجاه قطع بحرية أميركية عسكرية كبيرة وانتهاء بجنوب لبنان، حيث رفع «حزب الله» من قوة نيرانه ونوعية سلاحه الهجومي ولائحة أهدافه الجديدة. وما بين اليمن وجنوب لبنان استئناف استهداف المطاعم والمؤسسات الأميركية في العراق، وزيارة لوزير الخارجية الإيراني لبيروت لم تحمل جديداً سوى إطلاق مواقف متشدّدة في وجه السياسة الأميركية.
وكان واضحاً أنّ إيران تعلن رفضها السعي لإخراجها من الساحة الفلسطينية، ولو أنّ مؤشراً إيجابياً ظهر من خلال الاستمرار في الالتزام بعدم استهداف القواعد والمنشآت العسكرية الاميركية في المنطقة منذ أشهر عدة، إنفاذاً، على ما يبدو، لاتفاق غير معلن بين واشنطن وطهران.
وإزاء هذا المناخ، من الطبيعي أن تظهر تكهنات وتفسيرات سياسية حول الرسالة التي حملها مهاجم السفارة في عوكر، وأن تربط بينها وبين «الكباش» الكبير الدائر ولو من دون أن تحسم هوية الفاعل الحقيقي.
ففي الواقع، ثمة أسئلة غريبة لا يمكن حسمها قبل تفكيك الخلية الإرهابية بكاملها. ومنها على سبيل المثال لا الحصر أنّ عناصر «داعش» أو «ذئابها المنفردة» تزنر نفسها بأحزمة ناسفة لكي تكون «الشهادة» تتويجاً للعملية، وهو ما لم يكن يحمله «الذئب المنفرد». لا بل كان غريباً إصراره على التعريف عن نفسه من خلال شعارات مكتوبة، فعادة كان أسلوب «داعش» مختلفاً. والأهم أنّ اعترافه قبل أن يغيب عن وعيه بأنّ شقيقه الذي يسكن معه في منطقة مجدل عنجر القريبة من المصنع ينتمي الى التنظيم نفسه من دون أن تكون لديه علاقة بعملية السفارة. وعندما ذهبت قوة من مخابرات الجيش لإحضار شقيقه حاول هذا الأخير الهرب إلى سوريا، وهذا غريب بعض الشيء.
لذلك، يحق للمراقبين الديبلوماسيين إجراء ربط سياسي بين عملية عوكر وبين التسوية التي سيحملها بايدن الى باريس للإعلان عنها. وفي معرض قراءتها لظروف العملية، ثمة ملاحظة حول القصد من الهوية السورية للمنفّذ.
في أي حال، فإنّ الرئيس الأميركي الذي وصل إلى النورماندي في فرنسا سيتوجّه الى باريس ليبدأ «زيارة دولة» قبل أن تنعقد القمة الأميركية ـ الفرنسية السبت المقبل في باريس.
ويصل بايدن وهو مرهق إلى حدّ بعيد من النزاع الإنتخابي الصعب. فحملة الرئيس الاميركي استبقت سفره بإصدار بيان قالت فيه إنّ الحلم الأميركي الذي ضحّى كثيرون من أجله، يتعرّض للتهديد على يد دونالد ترامب، الرجل الذي وصف أولئك الذين قدّموا التضحيات الأغلى بالمغفلين والخاسرين.
وتسعى إدارة بايدن لالتقاط أوراق رابحة من القمّة لتوظفها في المعركة الرئاسية. ومن المقرّر أن تتطّرق القمة بداية الى الحرب الدائرة في أوكرانيا وتداعياتها السلبية على القارة الأوروبية، خصوصاً أنّ ماكرون كان قد زار ألمانيا والتقى مسؤوليها الكبار قبل موعد القمة مع بايدن.
وكذلك ستتطرق القمة الى ملف الصين وسبل احتواء تمدّدها على الرقعة العالمية وأيضاً في اتجاه أوروبا. ومن ثم سيتمّ البحث في ملف وقف إطلاق النار في غزة والرؤية المستقبلية المطروحة لحكم قطاع غزة. ومن هذا الملف سيكون الانتقال طبيعياً الى ملف جنوب لبنان ومعه الاستحقاق الرئاسي. وأيضاً سيتمّ التطرّق إلى ملف المناخ.
ووفق بعض المصادر، فإنّ باريس المتوجسة من احتمال اللعب بالاستقرار الأمني الداخلي خلال إقامة الألعاب الأولمبية، ستطلب المساعدة الأميركية، خصوصاً على المستوى التكنولوجي، لحماية الوضع الأمني. ولا شك في أنّ القدرات الأمنية الأميركية كبيرة، حيث تمتلك زهاء 750 قاعدة عسكرية موزعة على نحو 80 بلداً في كافة أنحاء العالم. والمعروف أنّ هذه القواعد مزودة قدرات متطورة للرصد والاستطلاع والمراقبة.
ومن المفترض أن ينتقل بايدن من باريس الى روما، حيث سيشارك في قمة مجموعة الدول السبع.
قد تكون حادثة السفارة الأميركية رسالة سياسية مشفّرة وقد لا تكون، خصوصاً أنّ المنفّذ شخص واحد لم يثبت وجود رفاق له، إلّا إذا أظهرت التحقيقات جوانب غامضة ومبرمجة.