زمن الخسائر السعودية: طريق التطبيع ليست “وردية”

جريدة الأخبار

| حسين ابراهيم |

«نسمع بنبح الكلاب ما تجنّنا… الكلب له حربتن بكرا نسنّنها/ من دون صهيون بذّتنا صهاينّا… أطماعهم عندنا بانت بواينها»؛ هذان البيتان للشاعر النبطي السعودي، خلف بن هذال، كانا ضمن قصيدة كتبها بعد اجتياح صدام للكويت عام 1990 وتهديده السعودية، وكان المقصود بهما أن «صهاينة» العرب فعلوا بأمّتهم أكثر ممّا فعلت بها إسرائيل.

بالإذن من الشاعر، صار هذان البيتان ينطبقان على «صهاينة» الداخل السعودي، والذين جلبوا إسرائيل إليها، حيث من المتوقّع أن تعود البلاد إلى أجواء التوترات نتيجة جرّها، من خارج السياق الطبيعي، إلى مربع التطبيع.لعلّ من الآثار الكبرى المستمرة لعملية «طوفان الأقصى»، أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي ذهب بعيداً في التطبيع غير الرسمي، ما زال غير قادر، أو حتى صار أصعب عليه، أن يذهب إلى تطبيع رسمي وعلني، في إطار صفقة شاملة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، يرى أنها ضرورية لمواكبة انتقال العرش إليه من والده الهرِم والمريض. لا بل إن التناقض بين التطبيع الفعلي والمواقف التي تضطر المملكة لاصطناعها في ظل الحرب الهمجية الإسرائيلية على قطاع غزة، صار يؤثّر على صورته، ويزيد مشاكله، فيما مستوى التورّط الذي وصل إليه، يجعله عرضة للابتزاز الإسرائيلي والأميركي لتسريع الخطى نحو التطبيع العلني وتقليل الثمن المقابل.

في هذا السياق فقط، يمكن فهم التقرير الموسّع الذي نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت»، الأسبوع الماضي، وفصّلت فيه التغييرات الكبيرة في المناهج المدرسية السعودية بين عامي 2023 و2024، لإزالة صفة العدو عن إسرائيل، ومحو اسم فلسطين من خرائط كتب الجغرافيا في المدارس، وتركها بيضاء في الوقت الراهن.

ولأن المقاومة الفلسطينية، ولا سيما حركة «حماس»، هي التي يحمّلها ابن سلمان مسؤولية تعطيل مشاريعه، فإن الحقد الدفين الذي أخرجه ذباب النظام الإلكتروني خلال الأيام الماضية، انصبّ عليها. وتركّزت الحملة على تمنين الفلسطينيين بالمساعدات المالية التي قدّمتها المملكة في تاريخها، مع أن غالبية تلك المساعدات، ومنذ البداية، كانت الرياض تشتري بها تخفيفاً للمقاومة ضد إسرائيل، بطلب أميركي. كذلك، يريد «الذباب» من الفلسطينيين أن يردّوا على «يديعوت أحرونوت»، فيما لم يقم أحد منهم بنشر ما يدحض ما أوردته الصحيفة الإسرائيلية. وإذ يقول أحد مناصري النظام إن الخرائط الرسمية السعودية لا تزال تحتوي على اسم فلسطين، فإن هذا يُعدّ عملياً اعترافاً غير مباشر بالتغيير في خرائط الكتب المدرسية، ولا سيما أن الشخص نفسه نشر مسألة حسابية من منهج الصف السادس الابتدائي لقياس أبعاد علم فلسطين، ولكنه لم ينشر الخريطة وعليها اسم فلسطين.

بعض هؤلاء، وإزاء صعوبة التوفيق بين مواقف علنية مصطنعة يراد منها إيهام الرأي العام السعودي بتأييد القضية الفلسطينية، وممارسات ثابتة على الأرض في اتجاه التطبيع، طالب بعدم الالتفات إلى الاعتراضات والذهاب إلى تطبيع سافر على الطريقة الإماراتية.

لكنّ ابن سلمان لا يستطيع فعل ذلك، أقلّه ليس قبل أن يصبح ملكاً، أو على الأصح أن يكون وصوله إلى العرش ضمن صفقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل تمزج بين المعاهدات الدفاعية وإقامة علاقة رسمية مع الأخيرة، إذ إن الوضع المعقّد الناشئ في غزة نتيجة الحرب الإسرائيلية والأميركية على القطاع، يقلّص الشريحة التي يمكن أن تتقبّل التطبيع من بين السعوديين.

وهذا قد يمتد إلى ما بعد وقف إطلاق النار في غزة، ولا سيما أن ولي العهد ليس قيادياً عادياً، بل هو يواجه تحدّياً كبيراً لشرعيته من داخل الأسرة، يبدو أنه يتفاقم كلما مرّ الوقت واقترب موعد تولّيه العرش لحظة وفاة والده. ولذلك، بدا أن ابن سلمان اضطر إلى إعادة أبيه من «التقاعد»، وتقديم صورة تفيد بأن الملك ما زال على رأس عمله، ويترأّس اجتماعات مجلس الوزراء، ولو عبر الفيديو، بعد نقله إلى قصر السلام في جدة للعلاج من التهاب رئوي، في ما بدا تحضيراً لاحتمال الوفاة وانتقال السلطة.

على أي حال، ومنذ تولّيه ولاية العهد عام 2017، لم يكن النمط الذي يحكم وفقه ابن سلمان مهتزاً كما هو اليوم؛ فمسألة غزة خلخلت كل أساسات ذلك النمط. وحتى الترفيه الذي هدف إلى إبعاد السعوديين عن السياسة، بالجملة، فضلاً عن ضرب الطابع المحافظ لحياتهم الاجتماعية، كل ذلك لا يؤدي الوظيفة المطلوبة منه، فيما المذبحة تدور في مكان غير بعيد. والموقف الهزيل للسعودية إزاء ذلك، جعلها تبدو عاجزة كلياً أمام محاولات الرئيس الأميركي، جو بايدن، تزيين التطبيع مع المملكة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، باعتباره جائزة يمنحه إياها مقابل الموافقة على وقف لإطلاق النار في غزة، يساعده في استعادة أصوات بعض ذوي الأصول العربية وغيرهم من أنصار فلسطين، والذين ازدادت أعدادهم بشكل كبير نتيجة الحرب الهمجية على قطاع غزة.

وبالإضافة إلى ذلك، سيعيد التطبيع ابن سلمان إلى مربع التوتر الإقليمي الذي سعى طويلاً إلى الخلاص منه، ولا سيما في العلاقة مع اليمن. وكانت تحذيرات قائد «أنصار الله»، السيد عبد الملك الحوثي، المتكرّرة في الخطابين الأخيرين له، ذات دلالة كبيرة؛ إذ إن أحد المطالب الفورية الأميركية والإسرائيلية هو انخراط ابن سلمان مجدداً في شكل من أشكال المواجهة مع الحركة في اليمن قد يفضي إلى العودة إلى قصف الأراضي السعودية، ما يعني التأثير على مشاريع التطوير السعودية الطموحة، والتي شهدت أصلاً تقليصاً كبيراً بسبب مشاكل في التمويل. والمشكلة المالية التي تسبّبت بها التخفيضات في كميات إنتاج النفط نتيجة سياسة ابن سلمان التي تفتقر إلى المرونة، دفعت الأخير إلى القيام بطرح ثانوي لشريحة جديدة من أسهم «أرامكو» في الأيام الماضية، جمع من خلاله أكثر من 12 مليار دولار. كما أن ثمة مبلغاً آخر (16 مليار دولار) حصل عليه، بحسب قول المعارض «مجتهد»، كـ«إتاوة» على الكويت، تمكّن من فرضها بعد تعليق الأمير مشعل الأحمد الحياة البرلمانية في البلاد، مدة لا تزيد على أربع سنوات.