| رندلى جبور |
منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، بلغت التقديرات الرقمية لخسائر أهل الجنوب: أكثر من ألف بين شهيد وجريح، ومئة ألف نازح، وعشرة آلاف منزل ومحل تجاري مدمّر ومتضرر، عدا عن ضياع الموسم الزراعي.
مع ذلك لم نسمع صراخاً وعويلاً جماعياً لهؤلاء الذين خسروا ويخسرون الكثير نيابةً عن كل الوطن، وهذا يُسجَّل لهم لا عليهم، وللمقاومة لا عليها.
هؤلاء يُظهِرون إيماناً عميقاً بالمقاومة، وانتماءً مشهوداً للبنان. وكأنهم يقولون: نحن مستعدون لتقديم كل التضحيات الممكنة حمايةً لملايين المواطنين، حتى لو لم يقدّر كثيرون هذه التضحيات بل يرجمونها بحجر.
وهؤلاء يُظهِرون ثباتاً ومناعة داخلية قلّ مثيلها، والتزاماً بقضية يعرفون أنها تستحق مهما كانت الاثمان.
وهؤلاء، على عكس ما يعتقد البعض، يفيضون بالمشاعر ويتألّمون لكل خسارة بشرية أو مادية، ولكنهم يتصبّرون عليها إذا كانت تعني الربح العام ولو بعد حين.
وقد سمعتُ أصدقاء لي، بعدما تدمّر بيتهم بالكامل واستحال رماداً في إحدى القرى الجنوبية، يقولون: “بسيطة… هذا ليس ثمناً غالياً قياساً بمن يستشهدون أو يدفعون دماً ويضعون جهداً للوصول إلى الجبهة وإبقائها صامدة”.
فأي إيمان هو هذا؟ وأي رقي؟ وأي ترفّع؟ وأي طوباوية؟
نعم إن أهل الجنوب طوباويون، يحملون صلبانهم على جلجلة لبنان، وعلى طريق القدس، واثقين بأنهم يتجهون إلى قيامة وطن ومشرق أفضل.
هم يبكون بصمت، وبالسر، ولكنهم حين يَظهرون على العلن، يكفكفون دموعهم ويلملمون مآسيهم، ويكملون دربهم بقوة وثبات وعزم وثقة.
وهذا كله في الوقت الذي بات فيه الكثير من الاسرائيليين تحت جلسات العلاج النفسي، أو في الملاجئ، أو على طريق الهجرة المعاكسة!
ليست خسائر أهل الجنوب هي أكثر ما يؤلم، بل إن الألم الحقيقي يتأتّى بسبب أولئك الذين لم يخسروا أي شيء، وينظّرون على الجنوبيين وهم يتفرجون عبر الأثير على الدمار، وعلى مشاهد القهر التي كأنها لا تعنيهم.
الألم يتأتّى بسبب أولئك الذين يرسلون أولادهم إلى أكثر البلدان المتطورة، ويعيبون على أهل الجنوب فعل التجذر والصمود.
الألم يتأتّى بسبب أولئك الذين يخافون ممن يدفع عنهم البلاء الآتي من عدو لا يعترفون بأنه عدو، بدلاً من الخوف منه ومن مشاريع التفرقة ومخططات التقسيم.
الألم يتأتّى ليس من أهل الجنوب والمقاومة، بل عليهم، لأنهم لا يتحملون فقط أعباء حرب كانت “إسرائيل” هي البادئ بها دائماً من دون الحاجة لأي ذريعة، ومن دون رادع من المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومجلس الأمن، بل أيضاً يتحمّلون “ثقالة” هؤلاء الذين يطلعون على الشاشات ليساووا المقاتل بالقاتل، وليفضلوا كل الكون على ابن البلد، والأسوأ أنهم يصوّرون كلامهم وكأنه من باب الحرص، وهم حتماً ليسوا ملكيين أكثر من الملك، والمالك الجنوبي!