/ حوراء زيتون /
حين كانت أم كلثوم تقف وخلفها فرقتها، ملوّحةً بمنديلها الذي يرافقها أبدًا، مقدّمةً لمصر خصوصًا، والعالم العربي عمومًا، طربًا وصوتًا، كانت مصر تعيش فترة الطرب الذهبية، وأنها ـ أي مصر ـ باتت الهدف الأول لكل من يسعى إلى الفن سبيلًا. وبينما كانت عيون الفتيات والفتيان على حدٍ سواء، تتعلق بالعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، مدهوشةً بصوته، مأخوذةً بأدائه الذي أضاف إلى السينما المصرية الكثير، كانت هناك عيونٌ أخرى تلتهم صفحات وسطور نجيب محفوظ، سفير مصر إلى جائزة نوبل، الاسم الذي لا يتكرر في الأدب…
وفي هذا الوقت الذي كانت فيه الآذان والعيون والقلوب جميعها متيّمةً على حدٍ سواء، كان هذا الزمن الذي سماه هواة الطرب بزمن أم كلثوم، وهواة الحب بزمن العندليب، وهواة الأدب بزمن نجيب محفوظ… كان هذا الزمن أيضًا، زمن عبد الناصر.
زمن جمال عبد الناصر، الزعيم العربي، جمع هواة الطرب والحب والأدب على حدٍ سواء.. هذه التسمية ـ أي زمن عبد الناصر ـ كانت متعلّقةً بكل عربيٍ قومي. كان ذاك الزمن زمن العروبة والوحدة العربية.
لجميع هؤلاء، لهواة الطرب والحب والأدب والعرب، كان ثمة قلمٌ يكتب، قلمٌ بحبرٍ لا يُمحى، لأنّ ما يُكتَب به صادرٌ عن عقلٍ مفكّرٍ مستنير، واطّلاعٍ واسعٍ واجتهادٍ صادق. وصاحبُ هذا العقل لم يكتب ليقول أنه موجود، أو ليظهر بين ازدحام الأسماء والعظماء، لأنّ ما لديه من اطّلاعٍ وثقافةٍ واتزانٍ، خوّله ليكون اسمًا ينتظرُ الناس ما سيقوله وما سيكتبه. ولهم بالدرجة الأولى كان يكتب وكان يحكي، للقرّاء، للمستمعين، للناس الذين من حقهم أن يعرفوا ماذا يحصل، وكيف يحصل ولماذا يحصل. ومعه هو، أتيح لهم في العديد من المرات أن يعرفوا “ماذا سيحصل”.
ذاك الزمن أيضًا، كان زمن محمد حسنين هيكل.
كيف يُحكى إذًا؟
من اعتدناه حاكيًا ومحكيًا، بات الآن مَحكيًا فقط.
سبعون عامًا في سطور
محمد حسنين هيكل، وُلد في 23 أيلول/سبتمبر 1923. بدأ مسيرته كمحرر في صحيفة الـ “Egyptian Gazette” الإنكليزية عام 1943. غطى في هذه الفترة بعض معارك الحرب العالمية الثانية في مراحلها المتأخرة.
عمِل هيكل في مجلة “آخر ساعة”، ثم التحق بعدها بعام بمجلة “روز اليوسف”، انتقل بعدها إلى العمل في صحيفة “الأخبار” اليومية.
لكنّ المرحلة الأبرز لهيكل كانت مع جريدة “الأهرام” المصرية، مثلما كانت المرحلة الأبرز للأهرام مع محمد حسنين هيكل.
“أهرام هيكل”، كما سمّاها البعض، تولّى “الأستاذ” رئاسة تحريرها لمدة 17 عامًا، حيث دخلها للمرة الأولى في 31 تموز 1957، ليبقى فيها رئيس تحريرٍ (ورئيس مجلس الإدارة عام 1959)، وناشرًا لمقال أسبوعي خاص بشكلٍ دائم تحت عنوان “بصراحة” كانت من أهم الزوايا وأغناها، كان ينشر فيها آراءه وتحليلاته حول الأحداث والتطورات.
صدر له العديد من الكتب في هذه الفترة، وتولى وزارة الإعلام في العام 1970، ثم اضيفت إليه وزارة االخارجية لمدة اسبوعين.
ترك “الأهرام” بقرار من الرئيس أنور السادات العام 1974، رافضًا تولّي المنصب الذي عرضه عليه السادات، مقررًا التفرغ للكتابة. لينشر هيكل في الفترة اللاحقة لعام 1974 عشرات الكتب، إضافة للقائه كبار الشخصيات والقادة في العالم.
وفي أيلول من العام 2003، وبعد إتمامه عامه الثمانين من العمر، والستين من الصحافة، نشرت الأهرام مقال هيكل “استئذانٌ في الانصرف”. هكذا، استأذن “الجورنالجي” معلنًا اعتزاله الكتابة الصحافية.
جمال عبد الناصر: الأخ الكبير
فكرة الاعتزال كانت قد راودته مساء 28 أيلول 1970 في غرفة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لحظة لفظ “الأخ الكبير” أنفاسه الأخيرة.
علاقة “الأستاذ” بالرئيس جمال عبد الناصر كانت أعمق مما يظن كثيرون وأمتن، ويخطئ من يظن أن تلك العلاقة كانت علاقة مصالح ومكاسب، والحق يقال أن هيكل لم يسع يومًا لاستغلال هذه العلاقة، لا لأهدافٍ شخصية ولا عائلية، ولعله في كثيرٍ من المرات أفاد أكثر مما استفاد من هذا القرب والعلاقة الوثيقة.

أما في ما يخص سؤال “هل يتبنى هيكل الناصرية؟” فإنه، وفقًا لجواب :”الجورنالجي” نفسه، فإنه يتبنى قوميّة التيار الناصري، هو الذي وضع الوحدة العربية فوق أي شيء.
وبالتأكيد، من يضع الوحدة العربية في أولى أولوياته وانتماءاته، ستكون فلسطين بوصلة دائمةً له.
كان الراحل متمسكًا بالقضية الفلسطينية، رافضًا فكرة السلام معتبرًا إياها فكرةً غير منطقيةٍ وحلًا غير استراتيجي. ولذا كان من الرافضين لمعاهدة كامب دايفيد.
العقد الأخير
في العام 2003 انتقل إلى الشاشة والكاميرا، التي بات يعتبرهما أقرب إلى الناس من “المكتوب”، هو الذي تحدّى غزو الكاميرا طويلًا، انطلق إلى تقديم البرنامج الأسبوعي “مع هيكل” على قناة “الجزيرة” الفضائية، ليستعرض تجربته خلال فترات مختلفة، وبعدها أجرى سلسلة حورارت عديدة، وقد كانت آخر حواراتٍ تلفزيونية هي التي أجراها مع الإعلامية لميس الحديدي في برنامج “مصر أين ومصر إلى أين؟”.
“الرحلة انتهت، لا تعاندوا القدر”، آخر ما قاله الأستاذ قبل الرحيل.
محمد حسنين هيكل 23 أيلول 1923 – 17 شباط 2016.
سبعون عامًا من العمل والجدل والأمل، لم تنته الرحلة يومًا يا استاذ.














