| جورج علم |
ترك غياب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، دوّياً على المسرح الدولي، في ظلّ إنهماك متزايد بحربين مكلفتين، سواء في أوكرانيا أو في الشرق الأوسط.
تحاول طهران تضميد الجراح، والحد من الخسائر، وقد نجحت في الامتثال لأحكام الدستور، وملأت الفراغات خلال مرحلة انتقاليّة تستمر 50 يوماً يصار خلالها إنتخاب رئيس، وإعادة تشكيل فريق وزاري يواكب متطلبات المرحلة.
وطمأن مرشد الثورة الإيرانيّة السيّد علي خامنئي مواطنيه، معلناً أن “لا خوف على البلاد”، في إشارة واضحة إلى قوة المؤسسات الدستوريّة في تأمين الإستمراريّة بأجواء هادئة بعيدة عن المطبّات المهلكة. إلاّ أن الدول الكبرى المعنيّة، والمهتمّة بما يجري، لا تكتفي بالفضاء الإعلامي، وما يدور في فلكه من ضجيج، لأنها صاحبة أهداف، ومصالح، ولها حسابات وأولويات قد لا تتوافق وتلك المدرجة على جدول أعمال “طوفان الأقصى”، وما تلاه ويستتبعه من حسابات مغرضة، تضخّها جبهات ساخنة مشرّعة الأبواب على شتى أنواع الإحتمالات والمفاجآت.
كانت حسابات الدول الكبرى محشورة في خانة “ما بعد غزّة”، و”مواصفات اليوم التالي”، وكيفيّة الإنتقال من المعارك الميدانيّة إلى المعارك الدبلوماسيّة، للوصول إلى وضعيّة تؤمن منسوباً عالياً من الهدوء والإستقرار. بعد سقوط المروحيّة، طرأ جديد على جدول الحسابات، عنوانه: “ما بعد إبراهيم رئيسي ليس كما قبله”. ما بعده هناك إنتخابات رئاسيّة يفترض أن تجري في غضون 50 يوماً، طبقاً للدستور الإيراني، تسبق الإنتخابات الأميركيّة، وتمهد لها. بمعنى أن واشنطن سوف توظّف كامل طاقاتها وإمكاناتها، كي يشكّل الإستحقاق الدستوري في إيران بداية تحوّل نحو مرحلة جديدة من الحوار للتفاهم على ملفات مفتوحة في الشرق الأوسط، كون هذا التفاهم بات ضرورة ملحّة لمصالح البلدين، والنظامين، والشعبين.
وبات واضحاً أن الإدارة الأميركيّة لا يمكنها أن تحجز مقعداً للرئيس جو بايدن في البيت الأبيض، لولاية جديدة، إلاّ إذا تمكّنت من إنهاء الحرب في غزّة، وأقنعت “إسرائيل” القبول بمواصفات اليوم التالي، بما ينسجم مع التوصيات التي حدّدتها القمم العربيّة ـ الإسلاميّة التي استضافتها المملكة العربيّة السعوديّة، ومملكة البحرين تباعاً بعيد “طوفان الأقصى”، والتوافق على إطار واضح للدولة الفلسطينيّة، ضمن حل الدولتين، طبقاً لقرارات الشرعية الدوليّة، والمبادرة العربيّة للسلام التي أقرتها قمّة بيروت في العام 2002.
وتشكل مرحلة ما بعد الرئيس رئيسي فرصة لواشنطن كي تفعّل قنوات الحوار مع طهران، للوصول إلى تفاهمات كبرى حول كلّ الملفات المحيطة بالشرق الأوسط، والعلاقات الثنائيّة، خصوصاً بعدما أعلن ممثل إيران في الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني عن محادثات غير مباشرة بين طهران وواشنطن، جرت قبل أيام في مسقط، مع كبير مستشاري الرئيس بايدن لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك، ونائب المبعوث الأميركي الخاص لشؤون إيران إبرام بالي. وقد عقدت الجولة قبيل أيام من رحيل رئيسي، وتحت عنوان “تفادي المواجهات الكبرى في المنطقة”.
وإذا كانت واشنطن في سباق مع الوقت للوصول إلى هدنة تشكّل منطلقاً لورشة دبلوماسيّة كبرى تعالج معظم الملفات الساخنة، وتوفّر فرصاً مؤاتية يستغلّها الرئيس بايدن في الداخل الأميركي لتعويم رصيده الشعبي المتداعي، وتأمين إقامته في البيت الأبيض لولاية ثانيّة، فإن طهران بدورها هي في سباق مع الوقت للوصول إلى مكان يمكن معه الخروج من الأنفاق إلى الآفاق المفتوحة. إنها بحاجة إلى ملياراتها المحتجزة في المصارف الأميركيّة ـ الأوروبيّة. إنها بحاجة إلى تحرير نفطها وإقتصادها من العقوبات. إنها بحاجة إلى بناء أسس واضحة مع الوكالة الدولية للطاقة الذريّة، ومع الغرب الأوروبي ـ الأميركي، والشرق العربي ـ الخليجي، لبرنامجها النووي. لا يمكنها أن تقنع الرأي العام بأن برنامجها للأغراض السلميّة، فيما تواصل تخصيب اليورانيوم إلى مستوى يمكّنها من إمتلاك قنبلة نوويّة. إنها بحاجة لأن تنخرط في علاقات نديّة شفّافة مع المملكة العربيّة السعوديّة، ودول مجلس التعاون الخليجي، ومجموعة دول منظمة المؤتمر الإسلامي. لا يمكنها بعد اليوم أن تقول إنها إتفقت مع الرياض لإقامة علاقات بناءة، فيما هي تغرّد خارج السرب الخليجي ـ العربي. لا يمكنها القول إنها كانت مشاركة في القمّة العربيّة ـ الإسلاميّة الإستثنائيّة التي استضافتها الرياض في 11 تشرين الثاني 2023، وصادقت على مقرراتها في ما يتعلّق بغزّة، والدولة الفلسطينيّة، فيما هي تعتمد نهجاً مغايراً، لا بل تصادميّاً. لا يمكنها أن ترحّب بقرارات القمّة العربيّة الأخيرة في المنامة، فيما تفعّل جبهات المواجهة على طول الشريط الممتد من غزّة وصولاً إلى اليمن، لأهداف، ومصالح باتت مكشوفة ومعروفة.
قد لا يخرج دخان أبيض من مدخنة الإستحقاق الرئاسي في طهران بعد غياب رئيسي، ولكن بالتأكيد لا مصلحة لإيران من استمرار تصاعد الدخان الأسود على طول الجبهات المفتوحة، لأن خطوط التماس ما بينها وبين “إسرائيل” تزداد يوماً بعد يوم، تعبئة، وتلغيماً، فيما صاعق واحد كفيل بأن يدفع بها نحو زلزال مدمّر!
الآراء الواردة في المقالات تعبّر عن رأي كاتبها ولا يتحمّل موقع “الجريدة” أي مسؤولية عن مضمونها.