| جورج علم |
تفتقر “وليمة النصر” إلى الضيوف، والمتزاحمون يفتقرون إلى بطاقة الدعوة لإبرازها عند الحضور. ما بين أيديهم حاليّاً مجرّد وهم. لا أحد يستطيع أن يتجاوز الخطوط الحمراء، ويخترق السقوف المحددة. هناك “باب عالٍ”، و”مرجعيّة” ترسم الأدوار، وتحدّد المهام. الولايات المتحدة هنا. الدول الخمس الكبرى الدائمة العضويّة في مجلس الأمن كذلك. والمصالح الدوليّة، وممراتها الحيويّة هنا. وبالتالي، لا يحقّ للعين أن تعلو فوق الحاجب مهما بلغ كحلها، ولا بدّ للحاجب من أن يحرس العين لإستشراف الآتي، وتحديد المعالم.
دخلت المنطقة مرحلة “التصفيات النهائيّة”، ومع “طوفان المسيّرات” المندفع من إيران، بدأت أولى المباريات الجديّة الوجوديّة. الكل يريد إثبات وجوده، وفرض حضوره. ومن قاد “المسيّرات”، مجرّد كبت مزمن، وغضب مخنوق، وإعتداد فائض بالقوّة، وإلاّ ما الحاجة إلى 300 مجنّح للإنقضاض على كيان الاحتلال الإسرائيلي، ردّاً على ضربة معروفة العنوان، والمكان، والزمان؟
تريد طهران تأكيد الحضور على مسرح الشرق الأوسط كقطب مؤثّر في صياغة الحاضر والمستقبل. تدير مواجهة للحدّ من النفوذ الأميركي، والتحرّر من العقوبات، ودخول النادي النووي، وفرض الهويّة الثقافيّة الخاصة بها، في هذا المحيط الإقليمي الواسع والمختلف، و”تصدير الثورة”، ومنع أي إستيراد ثقافيّ آخر متمايز متنوّع.
إرسال مئات “المسيّرات” تحت شعار الرد، مظهره قوّة، ودوافعه قلق مصيري. شاءت أن توجّه رسالة إلى القاصي والداني، على أنها قادرة، ومتمكّنة، ومتفوّقة، لكن المردود كان محدوداً، وتبيّن أن مظهر القوّة يعلو فوقه مظهر أقوى قادر على إدارة المسرح، وتوزيع الأدوار.
“حماس” تخوض حرباً وجوديّة. السؤال ـ التحدّي، هل تبقى ضمن المعادلة الإقليميّة أو لا تبقى؟ يهمّ يحي السنوار إندلاع حرب إقليميّة، تعيد خلط الأوراق. عندما خطّط لـ”طوفان الأقصى”، كان من بين الأهداف المرسومة إندلاع حرب واسعة تؤدي إلى إعادة صياغة الحلول للملفات المعقدة بأسلوب جديد مختلف. طموحاته هذه شكّلت مادة نقاش. الإدارة الأميركيّة حذّرت تل أبيب من ردّ واسع يشعل المنطقة، ويحقّق رغبة “حماس”. بنيامين نتنياهو أخذ هذا الإحتمال بعين الإعتبار عندما كانت حكومته تدرس الردّ، ونوعيته، ومحاذيره. فرنسا وبريطانيا وألمانيا حذّروا من الإقدام على ردّ يشعل المنطقة، ويؤدي إلى تداعيات إقتصاديّة مكلفة.
حجّة المتطرّفين في “حكومة الحرب” أن “إسرائيل” تخوض حرباً وجوديّة. وما يحقّ لها، يحقّ لها وحدها، دون الآخرين، في إتخاذ القرارات، وهندسة الخيارات، تحت شعار “الدفاع عن النفس”. رفع نتنياهو هذا الشعار، بعيد “طوفان الأقصى”، وراح يطوف به على دول القرار لتبرير التهلكة الكبرى التي أنزلها جيشه بقطاع غزّة، والدليل أن كل خطابات الشجب والاستنكار الصادرة عن رياح الأرض الأربع، لم تغيّر نمطاً واحداً من سلوكه المدمّر. يكفيه الدعم المطلق الذي لاقاه من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، في تدمير أغلب المسيرات الإيرانيّة قبل وصولها إلى أهدافها. ويكفيه أن الرئيس جو بايدن، الذي منعه من توجيه ردّ فوري ضدّ طهران، قد أكدّ له بالمقابل التزام الولايات المتحدة في الدفاع عن “إسرائيل”، ومدّها بالدعم اللازم، وضمان أمنها.
وخلال الزيارة التي قام بها وزير خارجيّة بريطانيا ديفيد ماكرون وزميلته الألمانيّة أنالينا بيربوك، إلى تل أبيب، مؤخراً، شدّد نتنياهو على نقاط أربع:
1 ـ لا بدّ من ردّ، لكن هذه المرّة بالتوافق مع تحالف عربي ـ إقليمي ـ دولي، واسع ومتفهّم.
2 ـ الأولوية عنده العودة إلى “بنك الأهداف” التي حدّدها إثر “طوفان الأقصى”: إجتياح رفح. القضاء على “حماس”. وقف الحرب على “جبهة الشمال” (جنوب لبنان). والوصول إلى معادلة جديدة على طول الجبهات المفتوحة تأخذ مصالح دول التحالف بعين الإعتبار، خصوصاً ما يتعلق بإمدادات الطاقة، وحرية الملاحة في البحر الأحمر.
3 ـ مواصفات اليوم التالي في غزّة، والمقبول والمرفوض إسرائيليّاً حول ما يتعلّق بالدولة الفلسطينيّة في ظلّ الحراك الدولي، إن على مستوى مجلس الأمن، أو الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، للتفاهم على هيكليّة وإطار لمشروع الدولة يأخذ أمن “إسرائيل” كأولويّة مطلقة.
4 ـ الموقف من إحتمال امتلاك إيران قتبلة نوويّة، نتيجة التقارير الصادرة عن الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة، والتي تتحدث بوضوح، وبحجج معزّزة بالأرقام، عن النسب العالية التي بلغها تخصيب اليورانيوم.
وبيّنت وسائل إعلام بريطانيّة أن التفّهم الأوروبي ـ الأميركي، للموقف الإسرائيلي، لا ينطلق من إحتمال دخول إيران النادي النووي، بل في حال حصول ذلك كيف يمكن منع المملكة العربيّة السعوديّة وتركيا من الإقدام على إمتلاك قنبلة، وتحويل الشرق الأوسط إلى “حديقة نوويّة” غير مستقرّة تضربها رياح المتغيّيرات من كل حدب وصوب؟!
أما في ما يتعلق بلبنان. قدّم نتنياهو ورقة تتضمن أولويات أربع:
الأولى ـ عودة النازحين إلى مستوطنات الشمال أولوية. ولا بدّ من إقفال هذا الملف الضاغط سريعاً.
الثانية ـ طالب بتفعيل الدور الأميركي ـ الفرنسي ـ الأوروبي للوصول إلى ضمانات أمنية موثوقة.
الثالثة ـ إذا لم تنجح الجهود الدبلوماسيّة، يصبح خيار الحرب أولويّة. ومشهد القرى المتاخمة للشريط الحدوديّ، سيكون مماثلاً لمشهد غزّة.
الرابعة ـ المنطقة العازلة لا بدّ منها. ولا إعمار للقرى المتضررة، إلاّ بعد التوصل إلى إتفاق برعاية الولايات المتحدة الأميركيّة، والأمم المتحدة، حول الضمانات الأمنية الموثوقة دوليّاً.
حصل “طوفان المسيّرات”، فدخلت المنطقة مرحلة التصفيات النهائية.. قد تطول، وبكلفة عالية…