| جورج علم |
يكفي طوفانان . ولا حاجة لثالث.. ولكن…
كانت “إسرائيل” منشغلة بـ”طوفان الأقصى”، قبل أن تنشغل بـ”طوفان المسيّرات”. إنتهى العرض، وبقيت الأسئلة الكبرى تطوف كأسراب السنونو فوق القرميد القاني، تكتشف التموضع الآمن.
فلش الردّ بضاعته على أرصفة الدول الكبرى. تل أبيب إتخذت قرارها، إنها منشغلة الآن في تحديد المكان، الزمان. بنك الدوافع عندها، يرسمل بنك الأهداف. لم تنته بعد من إحصاء الخسائر والفضائح التي سببها “طوفان الأقصى”. لم تتحرّر من وحول مستنقعه. لم تلتئم الجراح بعد. دمار غزّة تحوّل إلى مقبرة لطموحاتها.
لم يأت تفوّقها الجوّي بمردود تعوّل عليه. “حماس” لا تزال في الميدان. يحي السنوار لا يزال يخطّط، ويهندس، ويرسم معالم اليوم التالي. جبهات المساندة نيرانها مشتعلة، وكل يوم يحمل معه جديداً يزيد من تعقيدات المشهد. وقبل النفاذ من براثن الطوفان الأول، حلّ الطوفان الثاني، فازداد الوضع خطورة، وانزلاقاً نحو المجهول.
الولايات المتحدة تبحث عن بدائل، لا تريد ردّاً مفرطاً بالمخاطر، لكنها معنيّة بالأسئلة الصعبة التي طرحتها “الجبهة الإيرانيّة ـ الإسرائيليّة”. رفع بنيامين نتنياهو التحدّي إلى مصاف الخطر الوجودي. شخّص الوضع بـ”تنين مارد” يريد أن يبتلع الجغرافيا ، ويلتهم التاريخ. قبل “طوفان الأقصى”، كانت الأهداف عنده محسوبة بدقة، المفاعلات النووية الإيرانيّة، تخصيب اليورانيوم، التطور في صناعة الصواريخ والمسيّرات، تشغيل وتفعيل “الأظافر الطويلة” في كلّ من غزّة، ولبنان، وسوريا، والعراق، وصولاً إلى اليمن. لا تستطيع واشنطن التغافل، والتجاهل. بلغ البركان الثائر الفوّهة المفتوحة، لا تريد أن تتساقط الحمم الحارقة في كل اتجاه. تضغط لضبط النفس، لا تريد ردّاً متهوّراً، ولا تريد التخلي عن الإلتزام بدعم “إسرائيل”، والذود عنها، وتوفير كامل مستلزمات أمنها.
إيران توعّدت، فاقدمت، إرتدى “الوعد الصادق” عباءة المصداقيّة. قال “المرشد” فترجم “الحرس الثوري” القول إلى فعل. السؤال الآن: كيف الخروج من الحفرة؟ لم يحقّق ” طوفان المسيرات” سوى القليل من الطموحات. كان الإقدام، لكّنه لم يحقّق المرام. وأهدت طهران الكيان المستهدف ثلاث جوائز مجّانية:
1 ـ فكّ العزلة الخانقة عن “إسرائيل”، وقيام تعاطف دولي غير مسبوق.
2 ـ إقرار إيراني ضمني بأهميّة “الشيطان الأكبر”، والسقوف التي حدّدها، منعاً للإنزلاق نحو حرب مكلفة.
3 ـ قيام تحالف دولي تحت شعار “ضمان أمن إسرائيل”، له أهدافه في المنطقة، ويسعى إلى الإستثمار بتداعيات “طوفان المسيّرات”.
ما يجري ليس بالسهل، إنه زمن الإنقلابات. إنقلاب على التوازنات التي كانت سائدة، من دون التعرّف إلى كيفيّة ونوعيّة التوازنات الجديدة. إنقلاب على الإستراتيجيات التي كانت قائمة، إذ ليس بالكلام العابر الذي أطلقه وزير الحرب الإسرائيلي يؤاف غالانت عندما أكدّ أن “الردّ حتمي، لكن بعد قيام تحالف دولي”، هذا يعني وجود تباين مع واشنطن حول أولويات المرحلة، وبحث جدّي عن حلفاء آخرين شركاء في دعم الخيارات الإسرائيليّة.
نقل موقع “أكسيوس” الإخباري، أنه خلال إجتماع مجلس الحرب الإسرائيلي الموسّع، إقترح بعض أعضائه الردّ الفوريّ على إيران، لكنهم إصطدموا بمعارضة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وإقترح الوزيران، أعضاء مجلس الحرب، بيني غانتس، وغادي إيزنكوت ـ وكلاهما رئيسان سابقان لأركان جيش الاحتلال الإسرائيلي ـ هجوماً فوريّاً ردّاً على هجوم إيران، إلاّ أن نتنياهو رفض هذه الفكرة بسبب إتصال هاتفي من الرئيس الأميركي جو بايدن.
السؤال المطروح: هل ينتفي هذا التباين عندما يتم التوصل إلى تفاهم أميركي ـ إسرائيلي حول مواصفات اليوم التالي، ما بعد الهجوم الإيراني.. أم أن “الحكومة العميقة” في تل أبيب تحضّر لمفاجأة تضع الجميع أمام حسابات جديدة؟
المتوافر من معلومات، أن الإدارة الأميركيّة تعمل مع المعارضة الإسرائيليّة على تغيير حكومي، وعلى انتخابات إسرائيليّة مبكّرة تحدث ثغرة في الجدار السياسي المسدود. رضخ نتنياهو لمشيئة بايدن، ورفض الردّ الفوري على “طوفان المسيّرات”، لكنه ينتظر الثمن. هل يكون بإطلاق يده في غزّة، وغض الطرف عن إجتياح رفح، وفرض تهجير قسري نحو سيناء؟ هل يكون بتغيير المعادلة في جنوب لبنان، ووضع حدّ للنزف الحاصل، وفرض ضمانات أمنية تسمح له بإعادة أكثر من 100 ألف لاجئ إلى مستوطناتهم القريبة من “الخط الأزرق”؟ هل يعدّ العدّة ضدّ المفاعلات الإيرانيّة للتخلص من هاجس القنبلة النوويّة؟
المدير العام للوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة، رفاييل غروسي عبّر عن قلقه “إزاء احتمال استهداف إسرائيل للمنشآت النووية الإيرانيّة”، وحثّ على “ضبط النفس الشديد”. وجاءت مواقفه في نيويورك بعيد الجلسة الطارئة التي عقدها مجلس الأمن الدولي الأثنين الماضي لبحث الوضع المستجد في الشرق الأوسط.
سفراء المجموعة الدولية المساندة لـ”إسرائيل” في تصديها لمسيّرات الهجوم الإيراني، يقفون أمام إحتمالين: ردّ مباشر، ولو بعد حين، لتمكين “إسرائيل” من إستعادة هيبتها، وتوازنها بعد “الصفعة” الإيرانيّة. أو التعويض عن ذلك بتنازلات مؤلمة لا بدّ من ان تقدم عليها طهران على طول جبهات “المساندة” المفتوحة ضد “إسرائيل”، ويكون نصيب لبنان منها إعادة قراءة الوضع في الجنوب من منظار الشرعيّة الدوليّة، والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، لفرض هدوء وإستقرار برعاية دوليّة، والإلتفات نحو الداخل لملء الفراغات، وإعادة إحياء مؤسسات الدولة، ووضع حدّ للفوضى القائمة، والتي بدأت تهددّ السلم الأهلي، وتضع الكيان أمام مفترق خطير!