دور جمعية المصارف في تأسيس “المركزي”

يروي الباحث هشام صفي الدين في كتابه “دولة المصارف: تاريخ لبنان المالي” فصولاً من الوقائع المسندة بالوثائق، حول دور جمعية المصارف في تأسيس مصرف لبنان وإقرار قانون النقد والتسليف.

ويقدّم صفي الدين سردية واضحة المعالم، عن قوى النفوذ التي أدّت دوراً أساسياً في تفصيل قانون نقد وتسليف على قياس مصالحها.

وامتدّ هذا الأمر لفترة طويلة من الزمن انتهت بالانهيار المصرفي والنقدي في غياب أيّ نوع من الرقابة والمحاسبة، وتبيّن أن ميزان توزيع الثروة يميل ويتركّز لمصلحة التكتلات التجارية – المالية بحماية أجهزة الدولة ورعايتها.

لذا، فإن أيّ تعديلات متصلة بقانون النقد والتسليف يجب أن تكون مبنيّة على نقاش حول دور مصرف لبنان بوصفه ناظماً للقطاع المصرفي، وراسماً للسياسة النقدية ومنفذاً لها. الغرق في “هوس” منع إنتاج رياض سلامة جديد، ليس سوى قشرة في بحر من التعديلات المطلوبة المتصلة بالوظيفة الاقتصادية والاجتماعية التي يفترض أن يؤدّيها مصرف لبنان.

قد تكون المادة 174 من قانون النقد والتسليف الوحيدة التي تذكر ضرورة إشراك جمعية المصارف في كل التعاميم والقرارات التي يصدرها مصرف لبنان في سياق تسيير العمل المصرفي. لكن إلى جانب ذلك، تنصّ المادة الأولى من القانون 28/1967 المتعلق بإنشاء لجنة الرقابة على المصارف وتعيين أعضائها وإنشاء المؤسسة الوطنية لضمان الودائع، وضمن باب “أحكام متعلقة بقانون النقد والتسليف” على الآتي: “يخضع لترخيص مسبق من مصرف لبنان وفق نظام يضعه بالتشاور مع جمعية مصارف لبنان، فتح فروع في الخارج لمصارف لبنانية وكذلك فتح فروع جديدة داخل البلاد لجميع المصارف من لبنانية وأجنبية ونقل فرع من مكان إلى آخر”. أيضاً تشارك المصارف في تعيين لجنة الرقابة على المصارف، وتشارك حكماً بموجب المادة 10 في عضوية الهيئة المصرفية العليا، وبموجب المادة 13 في مجلس إدارة المؤسسة الوطنية لضمان الودائع… عملياً، الجمعية موجودة في كل القوانين الرقابية والتنظيمية للقطاع المصرفي.

وفق وصف صفي الدين، فإن “سطوة المصارف تشمل البنية المؤسّسية الناظمة للقطاع المالي بمعزل عن الأشخاص، والأيديولوجيا السائدة عن الاقتصاد السياسي عموماً، كعلاقة الدولة بالقطاع المصرفي والاقتصاد “الحرّ”، في مقابل الاقتصاد الموجَّه. لذا، لا يمكن إحداث تغيير جذري في بنية القطاع، ما لم يتم فهم جذور تشكيلها تاريخياً، وعلى رأسها فترة تأسيس جمعية المصارف ومصرف لبنان بعيد الاستقلال، وما دار حينها من صراع حول مشروع النقد والتسليف، في الخفاء والعلن، وذلك بحسب الوثائق التاريخية، بما فيها الأرشيف الأميركي”.

ينطلق صفي الدين في هذه السردية من الموقع الاجتماعي للأخوَين ريمون وبيار إدّه في فترة ما بعد الاستقلال، إذ يرى أنه كان موقعاً “مثاليّاً للدفاع عن امتيازات النخبة الماليّة في بيروت، وحماية مكاسبها؛ لكونهما نتاج مزاوجة المال بالسياسة”.

وفي عهد الرئيس شمعون، أصبح الأَخَوان إدّه سياسيَّينِ بارزينِ، ومدافعين متحمّسين عن الاقتصاد الحر، أو ما بات يُعرف بالجمهوريّة التجارية، ومحرّكها الاقتصاديّ، القطاع المصرفيّ. “كان الأخ الأكبر، ريمون الذي خلف والده في قيادة حزب الكتلة الوطنيّة، مهندس قانون السريّة المصرفيّة عام 1956″، أما بيار، فقد “شغل منصب وزير المالية، ثلاث مرات في عهد شمعون، وترك بصماته المؤسَّسيّة على تدعيم سلطة المصارف بعدما ترك الحكومة عام 1958. ومن منصبه الجديد والقوي النفوذ في رئاسة بنك بيروت الرياض، تولّى قيادة أول مجهود ناجح لينظّم المصرفيّون اللبنانيّون صفوفهم. ففي عام 1959، وهي السنة نفسها التي أنشئ فيها مجلس النقد والتسليف لتنظيم القطاع، تم تأسيس جمعية مصارف لبنان، وهي أول جمعية من نوعها في العالم العربي”.

ورد في أول تقريرين سنويّين للجمعيّة، أن “الأولوية مواجهة المخاطر التي تهدّد مصالح أصحاب المصارف، المخاطر الخارجيّة (تنظيم الدولة للقطاع) والداخليّة (النشاط النقابي) على السواء. وأنهت الجمعية إضراب نقابة موظفي المصارف وعارضت مشروعاً للضمان الاجتماعي في لبنان، ووضعت عريضة لمنع تأميم الفروع الخارجيّة لمصارفها الأعضاء في الجمهوريّة العربيّة المتّحدة، وضغطت للتأثير في مسودة قانون النقد والتسليف التي كان يضعها مجلس النقد والتسليف. «وفي نهاية المطاف، نجحت ضغوط الجمعيّة في ألّا تزعزع نظام المصرف المركزيّ، ما سمّاه بيار إدّه الأساس الذي «لا يُمَس» للقطاع المصرفيّ، أي: قانون السريّة المصرفيّة”.

وينقل صفي الدين عن وثائق أميركية تشير إلى أن سامي شقير، وهو مصرفيّ لبنانيّ كبير “معروف جداً” في وزارة الخارجيّة الأميركية، أن ثلاث مجموعات نافذة من رجال الأعمال كانت تتسابق لاكتساب مواقع مؤاتية حيال المصرف المركزيّ، بالنظر إلى “السلطة الهائلة” التي يمكن اكتسابها بالسيطرة على مثل هذه المؤسسة:

– المجموعة الأولى سعت إلى أن يكون المصرف المركزيّ “بعيداً من أي نفوذ أجنبي ـ كلمة “أجنبي” تشير إلى حد بعيد، إلى النفوذ الفرنسيّ، الذي يجسّده بنك سوريا ولبنان ـ وكان شقير، ورئيس جمعيّة مصارف لبنان بيار إدّه، ورشيد كرامي، رئيس الوزراء وزير المالية، والاقتصادي في الجامعة الأميركيّة في بيروت بول خلاط الذي كان أيضاً مستشاراً مالياً للحكومة، ينتمون إلى هذه المجموعة.

– المجموعة الثانية، هي المجموعة الفرنسيّة، أي التي وقفت مع المصالح الفرنسيّة التي يجسّدها بنك سوريا ولبنان. وقد شكّل العضو البارز في مجلس إدارة البنك، هنري فرعون، ومستشاره المالي جوزف أوغورليان، هذه الجبهة الثانية، متحالفَين مع السياسي المتزايد نفوذاً بيار الجميّل، رئيس حزب الكتائب اليميني.

– المجموعة الثالثة، قيل إنها تمثل المصالح البريطانيّة، وكان يرأسها يوسف بيدس، مؤسّس بنك إنترا ورئيسه. وقد ارتأى بيدس، “النشيط والطموح”، أن أفضل سبيل إلى الهيمنة على المصرف المركزيّ المقتَرَح، هو كسب عقد لإدارته؛ فاشترى أسهماً في البنك الأهلي الذي تربطه علاقة بفرعون، وكوّن جبهة مشتركة خفيّة مع المجموعة المتحالفة مع فرنسا. كذلك حاول بيدس أن يكسب خلاط بمنحه راتباً مغرياً، بصفة مستشار لإنترا. إلا أن خلاط، الذي كان مقرّباً من إدّه، رفض.

أُقرّ قانون النقد والتسليف عام 1963، “ولأول مرّة، عوملت المصارف على أنها تخضع لقانون خاص، لا لقوانين التجارة…”.

ومارست الجمعية ضغوطاً متكرّرة للتعقيب على مسودات مشروع قانون النقد والتسليف. وفرضت نفسها على طاولة اجتماعات مجلس النقد، إذ “بدعوة من الرئيس شهاب، أقيمت سلسلة اجتماعات ماراتونيّة بين المجلس والجمعيّة في آذار ونيسان عام 1963”. وبعد أخذ وردّ، كسبت الجمعيّة الجولة؛ “فبحسب الترتيب الذي اتُّفق عليه أخيراً، سُمِح للمصارف الخاصّة بأن تستعمل أرقاماً، بدلاً من الأسماء، لتنظيم حسابات الزبائن وجدولتها. ومُنِع مفتّشو المصرف المركزيّ من الحصول على معلومات المصارف، إلا من خلال مديريها، وعبر استمارات موحّدة (Standardized Forms). كذلك مُنع المفتشون من حق طلب أسماء الزبائن في ميزان حساباتهم، إلا إذا كان الميزان هو ميزان تسليف. وكان يجب أيضاً على موظفي المصرف المركزيّ أن يُقسِموا على السريّة، في ما يخص المعلومات عن الداتا المجمّعة للمؤسسات المصرفيّة، لا لزبائنها فقط.

وشُدِّدَت عقوبات الموظفين الذين ينتهكون السريّة المصرفيّة، عما كانت عليه في قانون السريّة المصرفيّة عام 1956». وأحرزت جمعيّة مصارف لبنان انتصاراً مهماً آخر، إذ نجحت في إلغاء بنود تنص على التصنيف الإلزامي للمصارف، بناءً على سياستها الائتمانيّة. وتمكنت الجمعية من خفض نسب الاحتياطي النقدي فلم تُفرَض شروط احتياطي حتى عام 1969، بعد أزمة إنترا، وعندئذ بلغت النسبة المفروضة 2.5% فقط بعدما كانت في مسوّدة المشروع 25% من الودائع تحت الطلب، و15% من الودائع الأخرى.

جريدة الأخبار