| جورج علم |
تستريح سفينة الشحن البريطانيّة “روبيمار” في حضن البحر الأحمر بعدما أسقطها صاروخ “حوثي”. لم يصدر عن لندن إشارات إنتقاميّة. تعاطى الإعلام البريطاني مع الحدث بما يتوافق ومواصفاته، بعيداً عن لغة التهديد والوعيد، لكن الحركة الدبلوماسيّة ما بين عواصم “التحالف الدولي” كان الهدف منها تلافي ضربة صاعقة خارج المألوف، لإعتبارات ثلاثة:
• لم تكن إيران راضية عن إغراق الناقلة. تنصّلت من أيّ اتهام يُساق لتحميلها جزءاً من المسؤوليّة. موقفها واضح، دعم “الحوثي”، لكن ضمن قواعد إشتباك منضبطة.
• مارست الولايات المتحدة ضغوطاً للحفاظ على الهدوء، ورباطة الجأش، حتى لا يؤدي أي ردّ فعل إلى نسف الجهود الرامية للتوصل إلى هدنة حول غزّة، أو تفشيل مهمة آموس هوكشتاين في لبنان.
• إن الضربة الأميركيّة ردّاً على استهداف “البرج 22” في الأردن، مطلع شباط المنصرم، جاءت بعد أسبوعين من التخطيط، والتنسيق، والتشاور كي تحقق النتائج المرجوة، بأقل الأضرار الممكنة…
لا ينام البريطانيّون على ضيم. إنهم صُنّاع أبراج، ويتقنون فنون الإستكشاف، ولهم من الإمكانات ما يكفي، وغالباً ما تهبّ رياحهم حيث لا يتوقع كثيرون. الردّ آتٍ لا محال، وهناك تنسيق مع الولايات المتحدة التي تعتبر أن إغراق الناقلة يشكّل اعتداء مباشراً على استراتيجيتها في المنطقة.
وعندما دعا الرئيس جو بايدن إلى قيام “تحالف دولي” لحماية حركة الملاحة في البحر الأحمر، كان هدفه حماية الإستراتيجيّة الأميركيّة من التآكل. استراتيجيّة أرسى مداميكها “اتفاق كوينسي” بين الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، والملك عبد العزيز آل سعود في 14 شباط 1945 على متن الطرّاد “يو أس أس كوينسي”، يومها ولد “المثلّث الذهبي”: حماية آبار النفط. وحماية الممرات البحريّة. وحماية المصالح المشتركة.
وأضافت واشنطن، بعد نكبة فلسطين عام 1948، بنداً عنوانه “حماية أمن إسرائيل”. كما أضاف الرئيس جورج دبليو بوش بنداً آخر عنوانه “مكافحة الإرهاب” بعد ضرب مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 أيلول 2001، لكن تبيّن في ما بعد أنه كان بنداً مختلقاً لتبرير هجومه على كلّ من أفغانستان والعراق. وقد كشفت الممارسات زيف الشعارات، وتبين من خلال الإرتكابات والتجاوزات أن معظم الفصائل الأرهابيّة كان يتصرّف “كجيش إحتياط” مكلّف بتنفيذ المخططات الأميركيّة في دول المنطقة.
لقد أحدث إغراق “روبيمار” تبدّلاً في سلّم الأولويات. اعتبرته بريطانيا انقلاباً على تاريخ من التعاون البناء مع اليمن. وإعتبرته واشنطن تطاولاً على إستراتيجيتها الممتدة من مضيق هرمز إلى باب المندب، ومن البحر المتوسط إلى بحر العرب، وصولاً إلى البحر الأحمر. وفي زمن رسم خرائط النفوذ، يصبح التنسيق البريطاني ـ الأميركي من البديهيات لحماية المصالح، ورسم خطوط الطول والعرض للشرق الأوسط الجديد.
لن تغيب بريطانيا عن المنطقة، التوغّل في شعابها أعرق تاريخيّاً من التوغل الأميركي. كانت هنا مهندساً بارعاً مشرفاً على رسم معالم الكيانات بعد انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة. وصل الأميركي متأخراً، جاء في العام 1945 على متن طرّاد، آتياً من مؤتمر مالطا، لينشر شبكة نفوذه.
يطلّ “الحليفان” من الخلفيّة التاريخيّة على شؤون المنطقة، وشجونها، هنا يرسم التاريخ معالم المستقبل. هنا غزّة ومصيرها. هنا القضية الفلسطينيّة، ومستقبلها. هنا محور الممانعة، وطموحاته الآنيّة، والمستقبليّة. هنا مصير لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن. غرقت “روبيمار”، وطافت فوق البحر الأحمر استراتيجيّة منسّقة هادفة للإمساك بالمفاصل الأمنيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة الحيوية، انطلاقاً من الآتي:
أولاً ـ الاستفادة من الفوضى العارمة التي تضرب العديد من دول المنطقة. هكذا بيئة مسكونة بالهواجس والمنغّصات تشكّل فرصاً مؤاتية، لبناء الأبراج، واستكشاف الساحات، والإمساك بالمفاصل الحيويّة، وصياغة المستقبل للعديد من دولها وشعوبها.
ثانياً ـ إن الزلزال الذي انطلق من “طوفان الأقصى” قد شرّع الأبواب والنوافذ، وتركها مفتوحة أمام كل الاحتمالات. وبناء عليه، وانطلاقا من الخلفية التاريخيّة، لا مانع لدى “الحليفين” من لعب دور شرطي المرور، لمراقبة حركة الروسي والصيني والهندي والتركي والإيراني و”مجمع الدول” الطامحة للحصول على “مرقد عنزة” لمصالحها في مستقبل المنطقة… باختصار: عندهما “لكل عروس لبوسها”.
ثالثاً ـ إن مسار التطبيع أصبح من المسلمات، ومن غير المسموح أن يرهبه ترهيب، أو يدركه تعطيل. ومهمّة “الحليفين” لا تقتصر على إسكات منصّات اليمن السعيد، بل تجتهد لصياغة شرق اوسط جديد.
رابعاً ـ يدور في كواليس لبنان هذه الأيام كلام حول الأبراج المنتشرة على الحدود اللبنانية ـ السوريّة. وبمعزل عن خلفياته، ومصادره، وتوقيته، لا بدّ من الإقرار بأنها “صناعة” بريطانيّة، ولا بدّ من التأكيد على أنها شيّدت بمساهمات أميركيّة. ولا بدّ من الاعتراف أن ما هو قيد الإنشاء في الجنوب، إنما هو بهندسة بريطانية، وورشة أميركيّة يديرها آموس هوكشتاين لترسيم الحدود البريّة، وتطبيق القرار 1701، ونقل إحداثيات إتفاق الهدنة من الورق إلى أرض الواقع… ومن يبني أبراجاً للبنان، يعرف كيف يعمّمها على دول في المنطقة، ويتسلّق معارجها، للوصول إلى المطل المشرف على الحاضر والمستقبل…