| هيام القصيفي |
لأن الكلمة للميدان، يحلّ الوضع الداخلي في المرتبة الثانية بالنسبة إلى حزب الله، فيما خصومه وحلفاؤه ينظرون بتوجّس، في ظلّ هذا المشهد، إلى مصير رئاسة الجمهورية وإلى العلاقة بين المكونات السياسية.
لم يكن مستغرباً أن يدخل حزب الله في المواجهة مع “إسرائيل” بدءاً من 8 تشرين الأول. المواجهة التي تدور حولها إشكالات تتعلق بظروفها وإطارها المحدود وتوازنات عسكرية ربطاً بتطورات المنطقة وبرغبة إيران في عدم توسّع الحرب، تحمل كل العناصر اللازمة لتتطور الى حرب واسعة. كما لم يكن مستغرباً، استكمالاً لتطورات الأشهر الخمسة وفي ظل الوضع اللبناني الداخلي، أن يقبض الحزب على الوضع الداخلي الى هذا الحدّ، من دون إعلان رسمي ولا مواجهات داخلية مع أيّ طرف كما كان يحصل سابقاً. ما يجري هو العكس تماماً، لكن النتيجة تبقى واحدة.يتم التعامل مع أداء حزب الله على أساس أن الكلمة اليوم للميدان.
هذا ما يجيب به الحزب حين يُسأل عن مقاربة للحلول المقترحة للوضع الجنوبي، وعن الترتيبات الإقليمية والقرار 1701 والترسيم وتفاهمات الداخل واللجنة الخماسية والرئاسيات وأيّ نقاش له صلة بالنظام اللبناني وباتفاق الطائف. هذا الاختصار لرؤية الحزب للمرحلة الراهنة لا يمثل مجرّد عبارة يتيمة معزولة عن مقاربة الوضع السياسي العام وتعني عسكرياً تطورات الوضع الجنوبي وحده. ما يمكن أن يستشفّ من أداء الحزب سياسياً في هذه المرحلة أن رمي الكرة في ملعب الساحة العسكرية يعني، استطراداً، إمساكاً بكل مفاصل اللعبة السياسية الداخلية، كما بدأ يظهر تدريجاً، بدءاً من المفاوضات الدولية التي كان يفترض أن تحصر برئيس الجمهورية. فهذه النقطة بدأت تتبلور أهميتها مع نقاشات فرنسية وأميركية نشطت أخيراً في شأن ترتيبات الجنوب التي تتوقف عند أعتاب الجواب الرسمي اللبناني، وهو ضمناً جواب حزب الله. وهكذا تتعامل معه كل من واشنطن وباريس. ما يعني أنه في السنة الثانية من الشغور الرئاسي، تراجع الملف الرئاسي الى الحد الأقصى، وتتعامل الرئاسة الثانية وحكومة تصريف الأعمال داخلياً على أنهما تلقائياً تحلّان محل رئيس الجمهورية، لا بل إن هناك إمعاناً في وضع اليد على كل ما يفترض أن يكون في يد رئيس الجمهورية.
وجاءت مواجهات الجنوب ودور حزب الله في التفاوض لتضيف الى المشهد عنصراً ثالثاً يساهم أكثر في إلغاء دور رئيس الجمهورية. وإذا كان الحزب قد علّق كل ترتيب داخلي الى ما بعد حرب غزة، فإن مسار التفاوض والهدنة وتبادل الأسرى، وصولاً الى وقف الحرب يمكن أن يستمر شهوراً، ما يؤدي تلقائياً الى ربط لبنان بكل ملفاته الداخلية لأشهر مقبلة، ووقف تنفيذ كل التفاهمات الداخلية، بحيث لم تعد مضمونةً الغاية التي من أجلها يمكن أن يسير الحزب والرئاسة الثانية والثالثة في مسار انتخاب رئيس الجمهورية، ولأيّ سبب يفترض التمسك بموقع رئاسة الجمهورية.
يعكس حزب الله في الاستراتيجية العسكرية، موقعه في المعادلة الإقليمية والدولية بربط كل مسارات التفاوض بما يحصل في أرض المعركة. لكنّ الارتداد الداخلي يظهر نمطاً جديداً من التعامل السياسي الذي لم يسبق للحزب أن أظهره في هذا الشكل. للمرة الأولى، يتجاهل الحزب، بهذا الوضوح، ليس اعتراضات خصومه فحسب، بل انتقادات حلفائه أيضاً. وللمرة الأولى، يصل غضّ الحزب النظر عن موقف حلفائه، أي التيار الوطني الحر، الى هذا الحدّ الذي لا يُفهم منه فحسب التلطي خلف الحرب الدائرة جنوباً لعدم الدخول معه في سجالات، إنما كذلك في الابتعاد عن التوافق معه في كل الملفات المحلية أو حتى مراضاته، والتخفيف قدر الإمكان من المواجهات الداخلية معه ومع أي طرف آخر. وكأن الحزب لا يتوقف عند أي احتمال لاضطراره الى مواجهة ما بعد حرب غزة بالانصراف الى عقد تفاهمات أو تنشيطها للانطلاق مجدداً في حالة سياسية سليمة، كما إلى مصير العلاقة بين المكونات السياسية التي يحتاج إليها مبدئياً النظام الحالي.
وهذا أمر يتفاعل انعكاسه بين الحلفاء، لأنهم وخصومه باتوا يسلّمون بتطور حضور الحزب في المشهد السياسي بعد العسكري، وبأنه بات أكثر تفرداً من قبل، ويتعامل مع المستقبل القريب على أنه غير مجبر على تدوير الزوايا. ومشكلة هؤلاء الخصوم، كما الحلفاء، أنه في الوقت الذي يزداد فيه كذلك تمسك الرئاسة الثانية وحكومة تصريف الأعمال بكل ما يمكن أن ينتج من الشغور الرئاسي، تغيب أي استراتيجية سياسية في مواجهة ما بدأ يصبح أمراً واقعاً. والخطورة تكمن في أن أياً من هذه القوى التي يفترض أن تكون معنيّة بإنجاز انتخابات رئاسة الجمهورية، باتت تترقب بدورها جلاء غبار المعارك في الجنوب وغزة، وما سينتجه الميدان من نتائج على حزب الله، فلا تقدم على أيّ عمل، مسلّمة أمرها الى اللجنة الخماسية وفرنسا وواشنطن. وفي الانتظار، تنشغل كل قوة سياسية بمن سيوافق على إلغاء الانتخابات البلدية فلا تلقى المسؤولية عليها وحدها.