|ابراهيم الأمين|
عملياً، ما من أحد يعارض إنجاز هدنة خلال شهر رمضان، للجميع مصلحة فيها. لكن، ليس الجميع بحاجة إلى هدنة من دون معرفة ما سيليها. إسرائيل فقط، كما تعلن أو تقول في جلسات التفاوض، تريد هدنةً مؤقّتةً لأسابيع، يُطلَق خلالها كل من تعتبرهم من غير العسكريين من الأسرى، مقابل إطلاق عدد محدود من المعتقلين الفلسطينيين، وتتصرّف على أنها ستدفع مقابل الهدنة «ثمنا كبيراً» عبر السماح بدخول كميّات أكبر من المساعدات إلى القطاع!لا حاجة إلى شروحات توضح صعوبة موقف المفاوض الفلسطيني. إذ تجد حماس نفسها وحيدةً في هذه الحلبة، من دون وسطاء يملكون القدرة حتى على تدوير الزوايا. وقد لاحظ المسؤولون في حماس وبقية الفصائل، في هذه الجولة من المفاوضات، أنّ الجانبين القطري والمصري ليسا في حال أفضل، بل يمارسان ضغطاً هائلاً على المقاومة للسير بما هو معروض، على قاعدة أنّها ليست في موقع من يفرض شروطاً.
جوهر الأزمة، هنا، هو أنّ كلّ المعنيين بالمفاوضات يتصرّفون على أساس أنّ المقاومة هُزمت في غزّة، وأنّ المحادثات الجارية هدفها إيجاد مخرج مشرّف لها لإعلان استسلامها. ويتحدّث هؤلاء جميعاً، صراحة، عن «استحالة» منع إسرائيل من شنّ عملية في رفح، بمن فيهم مصر التي تخوض مفاوضات فعلية مع الإسرائيليين للحصول على ضمانات بعدم دفع النازحين إلى سيناء، وتجري مفاوضاتٌ شكليّةٌ مع الفلسطينيين لإقناعهم (اقرأ: إرغامهم) على السير بالمقترح الأخير الذي أُقرّ في باريس وفقاً لتصوّراتٍ أُعدّت مع الأميركيين.
وسط هذه الجلبة، ثمّة نقاشٌ آخر يدور بطرق ملتوية حول الجبهة اللبنانية. لتبسيط الأمر، يمكن الانطلاق من أنّ العدو يدرك أنّ حزب الله سيتوقّف عن شنّ عمليّات عبر الحدود اللبنانية بمجرد إعلان حماس بدء الهدنة في غزة. لكنّ إسرائيل تضع على جدول أعمالها، على هذه الجبهة، ملفّ النازحين من المستوطنين كعنوان رئيسي. وتفترض أنها بمجرد إعلان الهدنة، ستُعيد النازحين إلى المستعمرات في شمال فلسطين، كما سيعود النازحون في لبنان إلى القرى الحدودية. لكنّ سؤال إسرائيل الأساسيّ: ماذا عن مرحلة ما بعد الهدنة، وكيف سيكون الوضع على الجبهة اللبنانية؟
السؤال ليس مرتبطاً بالمجريات العسكرية فقط، بل في كون معضلة المستوطنين ستكون مرة جديدة من دون حلّ، أي إنّ العدو يفترض أنه في حال استأنف عملياته العسكرية في غزة، فإنّ حزب الله سيستأنف عملياته العسكرية ضدّ قواته في الشمال، ما يعني العودة إلى مناخ الحرب، وبالتالي إنّ العودة المؤقتة للمستوطنين لا فائدة منها. لذلك، يدرس العدوّ خياراته من بين الآتي:
أولاً، البقاء في حالة استنفار، والسير بمقترح عدم السماح لسكان المستوطنات بالعودة، وتوسيع الإجراءات الأمنية والعسكرية في تلك المنطقة.
ثانياً، السعي إلى التوصّل إلى اتّفاق سياسي مع لبنان يؤدي عملياً إلى فصل جبهة الشمال عن جبهة غزّة.
ثالثاً، الاستعداد لمستوى آخر من العمليات القتالية لتعديل الواقع القائم على الأرض.
حتى الآن، يبدو أنّ العدو يلعب في الخيار الأول، فهو قرّر تمديد الإخلاء القسريّ لنحو مئة ألف مستوطن حتى مطلع الصيف المقبل، والبدء في إجراءات لمساعدة نحو خمسين ألفاً آخرين من المستوطنين الذين أخلوا طوعاً مناطق تبعد بضعة كيلومترات عن خطّ الجبهة. كما لجأ العدوّ إلى إجراءات إضافية، أمنياً وعسكرياً، على قاعدة أنّ المواجهة قد تأخذ شكلاً مختلفاً مع الوقت، ملمّحاً إلى الخيار الثالث. إذ يفترض العدوّ أنه في حال رفض حزب الله تسويةً تفصل بين لبنان وغزة، فإن جيش الاحتلال سيكون مضطراً إلى إدخال تعديلات على آليّات عمله العسكري لإجبار حزب الله على السير في عملية الفصل، وهذا ما ينطوي على تصعيد كبير لا يضمن أحدٌ عدم تحوّله إلى مواجهات واسعة أو حرب شاملة.
في الحالتين، تبدو إسرائيل مضطّرة إلى انتظار نتائج جولة جديدة من الجهود الديبلوماسية الأميركية للتوصّل إلى اتّفاق مع لبنان، وهدف الفصل بين الجبهتين، هو جوهر المبادرة الأخيرة التي قدّمها الفرنسيّون، كما أنه جوهر ما يحمله الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتين إلى لبنان. وبحسب ما رشح من معلومات، فإنّ الجميع في لبنان يعرف أنّ الهدف هو التوصّل إلى حلّ يمنع تجدّد القتال على الجبهة مع العدو، حتى ولو استؤنف القتال في غزة.
حتى الآن، لا تصرّح المقاومة بشيء، ولا تعطي أيّ نوع من الأجوبة، عن كلّ الأسئلة التي ترد من الخارج. العبارة الوحيدة التي يجري تداولها هي أنّ «العمليات تتوقّف هنا، بمجرد إعلان المقاومة عن وقفٍ لإطلاق النار في غزة». مع ذلك، إنّ الجهات الغربية التي تفاوض لبنان تحاول صياغة علاج من نوعٍ مختلف، كأن يطرح الوسيط سؤالاً: ماذا لو لم تستأنف إسرائيل الحرب بشكل واسع في غزة، وحصرت أعمالها العسكرية بعمليات أمنية أو عسكرية موضعية، واختفى مشهد المواجهات الشاملة والقصف عن الشاشات وانتقلت الكاميرات لترافق سيارات المساعدات في مناطق القطاع… فهل سيعتبر حزب الله ذلك وقفاً للحرب؟
طبعاً، لا يتصرّف الغربيّون خارج الحسابات المنطقية، خصوصاً أنهم سئِموا نقلَ التهديدات الإسرائيلية، إلى حدّ قول بعضهم: لو كانت إسرائيل تريد شنّ حربٍ على لبنان لفعلت ذلك من وقت طويل، لأنّ حزب الله لم يستجب لكلّ التهديدات السابقة. مع ذلك، يلفتون إلى «شهية كبيرة» لدى حكومة العدوّ وقيادة جيشه لشنّ عملية واسعة ضدّ لبنان، ويطلبون من حزب الله التعامل مع الأمر بمرونة. وفي الوقت نفسه، يمارسون ضغطاً على بقية القوى السياسية اللبنانية، من داخل الحكم وخارجه، لرفع الصوت ضدّ استمرار الحرب جنوباً، معتقدين بأنّ ذلك سيشكّل ضغطاً على حزب الله. ويذهب بعض الغربيّين أبعد من ذلك، عندما يجرون تقييماً للمجريات الميدانية على الأرض، ويعطون نتائج للمعركة الحاصلة في غير مصلحة حزب الله، ويسارعون إلى الاستنتاج بأنّ الحزب بات مردوعاً، وغير قادرٍ على مواجهة ضربات إسرائيل!
في الموازاة، يُظهر جيش الاحتلال مؤشّرات على أنّه يستعدّ لحرب طويلة، سواء في غزة أو مع لبنان. وهناك كثيرٌ من العناصر غير المرئية للجمهور، تشي بأنّ التصعيد قادم، ولو ظلّ تحت سقف الحرب الشاملة، وهذا ما يدفع المقاومة في لبنان إلى العمل وفقاً لمبدأ أنّ الحرب قد تطول. لكن الواضح أكثر أنّ حزب الله، الذي يعرف أنّ العدو يجيد قراءته، يحتاج بين وقت وآخر، إلى تذكير هذا العدو بأنّ الحزب، رغم إعلانه صراحةً أنه لا يريد الدخول في حرب واسعة، إلّا أنّه قد يجد نفسه مضطراً إلى الأسوأ. وهذا ما دفع حزب الله، في المدة الأخيرة، إلى اتّخاذ إجراءات مدنية وعسكرية وأمنية في غالبية مناطق انتشاره وعمله، تحاكي احتمال لجوء العدوّ إلى مغامرة تفتح الأبواب على نارٍ واسعة!