| يحيى دبوق |
توشك العملية البرية في قطاع غزة على الانتهاء، والحرب على دخول مرحلة قتالية أقل كثافة، ما يتيح للعدو التطلّع شمالاً إلى الحدود مع لبنان، بالتوازي مع رفع مستوى الضغوط عبر تهديدات وأفعال، للدفع بـ«حل ما» يعيد النازحين إلى المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة.المعادلة التي يعمل عليها العدو تتلخّص في الآتي: حل دبلوماسي، أو حرب تفضي إلى هذا الحل. وفي حين أن المعادلة التهديدية تخدم مرحلة اللاحرب الحالية ومن شأنها الضغط على حزب الله وبيئته، إلا أن التهديدات لا تشير بالضرورة إلى أن الحرب واقعة إذا لم يرضخ الحزب لمطالب إسرائيل. فالشأنان مختلفان.
الواضح أن القرار الإسرائيلي محاصر حالياً بموانع تزيد على الدوافع، ما يمنع الانتقال بالمواجهة من كونها محدودة نسبياً، إلى مواجهة أكثر شمولية وحرب كاملة. ولا تكذب إسرائيل حين تقول إنها تريد حلاً دبلوماسياً يتيح عودة مستوطنيها شمالاً، ويشعرهم بالأمن والاطمئنان بأنهم لن يواجهوا «طوفان أقصى» أخرى.
لكن، ينبغي الفصل بين واقعَين اثنين، وإن كانا متداخلَين، ويخدم أحدهما الآخر: واقع اللاحرب الموجود حالياً، وواقع الحرب الشاملة التي تهدد تل أبيب بها. فكل ما يصدر من أقوال وأفعال في مرحلة اللاحرب يخدم أهداف هذه المرحلة أولاً، أي منع توسّع المواجهة وانتقالها إلى حرب شاملة، وفي الوقت نفسه استغلالها إلى الحدّ الأقصى بما يخدم الحل المنشود لإعادة المستوطنين لاحقاً. أما ما يتعلق بالواقع المتصوّر للحرب التي توحي تصريحات ومواقف العدو بأنها مقبلة إذا لم يرضخ حزب الله، فتبقى في دائرة التصور والإمكان النظري، ومن دون مقدّمات عملية. وهنا تثار جملة من الأسئلة من شأنها التوضيح:
– لماذا تمتنع إسرائيل، على لسان كبار مسؤوليها، عن وضع أهداف واضحة للحل تلزم نفسها بها علناً؟ ولماذا تكتفي بالإشارة الى «حل ما» يعيد المستوطنين؟
– لماذا تُطرح حلول دبلوماسية عبر تسريبات وحسب، كانسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، أو الحزام الأمني لما قبل عام 2000، فيما يركّز الخطاب الرسمي على «حل ما» دبلوماسي من دون الخوض في تفاصيله، بما يوحي وكأنّ مسؤولي الصف الأول لا يريدون إلزام أنفسهم بمطالب مسبقة؟
– كيف يتوافق التخيير بين حل دبلوماسي وآخر عسكري (توحي إسرائيل بأنها مستعدّة للثاني في حال لم يتبلور الأول) مع رضوخ تل أبيب ووسطائها لما ألزم حزب الله نفسه به، بأن لا حديث عن تسويات قبل وقف الحرب على غزة؟
– كيف يتوافق وضع الحزب بين خيارين مع استعداد تل أبيب للتنازل عن حدود بما يشمل النقاط الخلافية البرية والبحرية وصولاً إلى الامتناع عن الخروق الجوية، بل وحتى قبول التفاوض على تبعية مزارع شبعا نفسها والانسحاب منها؟
هل بات الخيار بين خيارين معيوباً كما يراد له أن يكون ابتداء، وبات الآن خياراً دبلوماسياً مع تنازلات متبادلة وموزونة، وإلّا حل عسكري غير محدد المعالم؟ إذا كان الأمر كذلك، فالإشارات الدالة على وجود تسوية أعلى بكثير من تلك الدالة على حرب يراد منها إيجاد الحلول.
كان ولا يزال لافتاً مسار تفاوض إسرائيل مع نفسها منذ السابع من تشرين الأول الماضي. فهي اشترطت، أولاً، الانسحاب الكامل للحزب من جنوب لبنان بلا قيد أو شرط، ثم تنازلت إلى طلب الانسحاب من جنوب الليطاني، ومن ثم من منطقة الحزام الأمني (قبل عام 2000)، وصولاً إلى تفهّم أنه لا يمكن لعناصر الحزب ترك قراهم بوصفهم مدنيين أيضاً، وكذلك التفريق بين المواقع والمراكز العسكرية وبين تلك المدنية الخدماتية والتنظيمية وغيرها.
يأتي كل ذلك في «مفاوضات» تخوضها إسرائيل مع نفسها، في تسريبات وتقارير إعلامية، من دون أي رد فعل من حزب الله. وحتى حين وجّهت رسائل مقتضبة عبر وسطاء، لم تلق إلا الردّ الرسمي: لا تفاوض حول تسويات، قبل وقف الحرب على غزة.
هل يعني هذا أن الحرب منتفية؟ الإجابة هي «لا» كبيرة جداً، ليس فقط بسبب الهوية العدوانية للعدو، بل لأن الاشتباك هذه المرة مبنيّ على طلبات إسرائيلية تستدعي، ولو من دون خوض حرب شاملة، إفهام حزب الله وحتى الحلفاء والمقرّبين منه، بأنها جادة في اللجوء الى حرب ما لم يتبلور الـ«حل ما» المنشود. وهذا قد يدفع تل أبيب إلى رفع مستوى المواجهة الحالية درجة أو درجات بما لا يبقي أمام حزب الله سوى الخيار التصعيدي المقابل، وصولاً إلى ملامسة الحرب، وربما الحرب نفسها.
كيفما اتّفق، تهديدات إسرائيل وأفعالها في الميدان، في هذه المرحلة، بما فيها التهديد بخيارات متطرفة، تخدم مطلب التوصل إلى «حل ما» دبلوماسي. فيما للحرب الشاملة، مقدمات ما زال الكثير منها في طور التشكّل، أو لم يبدأ تشكّله بعد.
لكنّ الإيحاء، العملي الميداني، بأن إسرائيل ستبدأ حربها الشاملة ما لم يجد الآخرون «الحل»، قد يلزمها برفع وتيرة المواجهة درجة معتدّاً بها، بما يُعدّ مقدّمة لحرب شاملة، ومخاطرة قد لا تكون محسوبة جيداً من تل أبيب.
في الوقت نفسه، يدرك صانع القرار لدى العدو أن عودة المستوطنين نقطة مفصلية في منظومة الضغط الإسرائيلي، إذ سيكون العدو بلا أوراق ضغط عالية التأثير بعد العودة، والتقدير الأكثر رجحاناً هو الردع المتبادل الذي سيكون أكثر مما كان عليه، مستوى وتأثيراً، وهو ما يفسر «استماتة» إسرائيل لطلب ما أمكن، في هذه المرحلة، قبل أن تُغلق نافذة التسويات والتنازلات المتبادلة الممكنة، في مرحلة ما بعد الحل واستقرار المستوطنين في مستوطناتهم.