| جورج علم |
كان تشييع شهداء حركة “أمل” ملفتاً. رسائل في كلّ اتجاه، و”الأقربون أولى بالنظر، واستخلاص العبر”.
دخول “الحركة” الميدان ليس بالمفاجئ، إنه في صلب أدبياتها. لكن التوقيت كان ملفتاً، وكأن موسم الحصاد قد اقترب، وآن أوان الحساب للجمع والطرح برؤوس باردة، وعواطف مجرّدة. “إسرائيل” تهدّد، تريد فصل “جبهة الجنوب” عن “جبهة غزّة”. تريد إعادة أكثر من 100 ألف نازح إلى منازلهم شمال فلسطين المحتلة. تريد ضمانات أمنيّة، أولها “منطقة عازلة”، وتجريد جنوب الليطاني من أي سلاح ومسلحين باستثناء الجيش اللبناني، وقوات “اليونيفيل”. وتنفيذاً لما تريده، حرّكت قدرات دبلوماسية دوليّة وازنة، من الأميركي أنتوني بلينكن وفريق عمله، إلى المسؤول عن السياسة الخارجيّة والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب برويل، إلى وزراء خارجيّة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وغيرهم… كلّ ذلك تجاوباً مع “أمر مهمّة” صادر من تل أبيب، يهدف إلى إدخال الجنوب غرفة “العناية المركّزة”.
تمحورت محادثاتهم في بيروت حول كيفيّة التوغل والتغلغل بين حجارة “البازل” اللبناني المفكك، لتقوية حضورهم في المشهد الداخلي المستقبلي، وزيادة نفوذهم، وحجز مقاعد لهم حول أي طاولة تسوية قد تعقد. أضف إلى العمل على وضع “المطالب الإسرائيليّة” موضع التنفيذ عبر القنوات الدبلوماسيّة، و”المفاوضات الهادفة إلى أكل العنب بدلاً من الإصرار على قتل الناطور”.
وبمعزل عن القراءات المختلفة حول توقيت الإنخراط “الأملي” في الميدان، وضع الرئيس نبيه برّي فوله بالمكيول، ونُقل عنه قوله: “إذا حاول جيش الإحتلال أن يتقدّم متراً واحداً في الأراضي اللبنانيّة، ستكون حركة أمل جاهزة للدفاع عن لبنان، أما النمط الحالي من الحرب فليس ملعبنا، ولا يتناسب مع قدراتنا، وبالتالي نحن حاليّاً في موقع دفاعي بالدرجة الأولى”… ومن له أذنان سامعتان فليسمع…
كلامه هذا، هو كلام الأكثريّة الصامتة. المشهد موجع ومفجع، يخترقه الإحباط، ويسوّره الروتين في ظلّ معادلة: ” قصفوا.. قصفنا. سقط لهم.. وسقط لنا”، فيما الحرب تندلق نحو الشهر الخامس من دون أيّ أفق، باستثناء العدّاد المتهالكة عقاربه لشدّة ما تعمل على تعداد الضحايا، وحجم الخراب والدمار، والكلفة التي تتجاوز الإمكانات والقدرات، وتؤشر إلى تداعيات وطنية وأمنيّة وسياسيّة واقتصاديّة لا تحمد عقباها.
وسواء آن أوان الحساب أم لا، فالنتيجة لغاية الآن تبقى واضحة. الشعارات الشعبويّة لم يعد الزمن زمنها، ولا تليق بموسم الأحزان، والجنازة الكبرى. رمي “إسرائيل” في البحر من سابع المستحيلات، إلاّ إذا خرج الحوت ليبتلع الولايات المتحدة، ومن معها في الجمعيّة العامة للأمم المتحدة. الوصول إلى القدس، عبر الطريق المعتمد حالياً، من سابع المستحيلات مهما تفاقم القتال، وتكسّرت النصال على النصال. هناك “ظاهرتان” تؤكّدان على أن التطرف سيّد التصرّف، “حماس” التي لن تتوانى إلاّ إذا كان اليوم التالي على قياس مصالحها، ووفق ترتيب أولوياتها. وبنيامين نتنياهو الذي لن يتوانى إلاّ إذا ضمن بأن مواصفات اليوم التالي تتطابق ومواصفات مطامحه ومطامعه، وبنك أهدافه.
وفي ظلّ أميركيّ يريد ولا يريد. يقدم ويتراجع. يسجّل تصعيداً في مواقف إعلاميّة، سرعان ما يتراجع عنها لضرورات انتخابيّة، تبقى الوصفات الدبلوماسيّة عقيمة لغاية الآن، لم تشخّص الداء كما يجب، أو شخّصته وهي غير قادرة على تقديم الدواء، أو فرضه عن طريق الترغيب والترهيب، فيما محور الممانعة يتصرف على أنه ثابت في موقفه، وإن كان ثباته يقبع فوق خطّ مترجرج قد يفقد عابره التوازن في أي لحظة تقع فيها “صاعقة” غير محسوبة في شباط “اللبّاط”.
وسط هذه الأجواء التي يتداخل فيها الحابل بالنابل، يطلّ الرئيس برّي من شرفة مسؤوليته الرسميّة، و”الحركيّة”، على سهوب الجنوب بوساعة، وشموليّة، وبعد نظر.
1 ـ لا يمكن التفريط بلبنان “القضيّة” خدمة لقضايا الآخرين أيّا تكن مبرراتها.
2 ـ لا يمكن الاستمرار بالربط ما بين “جبهة الجنوب” و”جبهة غزّة” إلى ما لا نهاية. الكلفة عاليّة، والصمود معافى، ولكن لا يمكن استمراره في ظل الإنقسام الوطني، وغياب الدعم، والمقويّات، والمغريات. مئة ألف من الذين هجروا منازلهم، تكفي. ماذا لو بلغ الرقم مئتي ألف؟ 59 قرية منكوبة لغاية الآن، ماذا لو بلغ الرقم 159؟
3 ـ السباق ما بين الوصفات الدبلوماسيّة، والتهديدات العدوانيّة، محموم. هناك شبه قناعة بأن المواجهة الكبرى لن تحصل. هناك خطوط حمراء دوليّة ـ إقليميّة، تشكّل ضوابط. ولكن في زمن الحرب قد تحصل مفاجأة غير متوقعة تطيح بكل الحسابات، وتغيّر كل المعادلات.
4 ـ هل كلمة الفصل في الجنوب لا تزال عند من هم في الميدان، أم عند صاحب الفرمان؟ وهل الذي ينفخ في جمر الجبهات، من غزة مروراً بجنوب لبنان، إلى سوريا، والعراق، وصولاً إلى اليمن، ليزيدها اشتعالاً، يسمح بتفككها، أم أنه لا يزال يصرّ على أن تمر طريق مصالحه عبر طريق القدس، وانطلاقا من الجنوب.. وربما من بيروت؟!
… قال: “إن النمط الحالي من الحرب ليس ملعبنا.. ولا يتناسب مع قدراتنا”… لكن على من تقرأ مزاميرك؟!