جوزف عون يُظهر “البروفيل” السلبي للرئيس؟

جريدة الأخبار

| نقولا ناصيف |

عندما يختلف قائد للجيش مع اربعة وزراء للدفاع متعاقبين، ويمنع رابعهم من ادخال زواره سياراتهم الى حرم اليرزة، ويطلب من نائب رئيس مجلس النواب ونائبين آخرين الدخول مشياً، ويفسخ عقداً مع مستشار قانوني تعاون مع 30 وزيراً للدفاع في 40 حكومة و10 قادة للجيش طوال 56 عاماً، لا يعود صعباً اكتشاف مكمن العلة.

المأثور عن قائد الجيش العماد جوزف عون انه قال لأبنائه، بعد تعيينه في منصبه عام 2017، ان لا ينسوا ان جدّهم كان رقيباً، وان بيتهم لا تزيد مساحته على 120 متراً. المأثور عنه ايضاً انه فضّل الاحتفال بزفاف ابنه خارج البلاد، خلافاً لكثيرين من نظرائه كما في اسلاك عسكرية اخرى بفحش البذخ، احتراماً لمشاعر اللبنانيين في ضائقتهم الاجتماعية. ذاك لم يعد هو نفسه اليوم. في أحسن الاحوال لم يعد كما كان.كثرت اخيراً الروايات: ان يُقال ان محطات تلفزيونية لا تبث خبراً يزعجه لئلا يحرمها من الحماية وتفلّت «الزعران» عليها لتخريبها. ان يقول الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، في عز الانهيار المالي، انه ظل طوال سنتين يدفع عملات صعبة للجيش بسعر 1500 ليرة للدولار الواحد، بما في ذلك لبعض الضباط القريبين من القائد لدى تقاضيهم تعويضاتهم – وبينهم مستشارون الى جانبه اليوم – فيما لم ينل ضباط آخرون هذه الحظوة. ان يقول الحاكم ايضاً انه لا يسعه إغضاب القائد لئلا يجرّد مقر الحاكمية من حامية الجيش فيدخل اليها أيضاً «الزعران»، وان تكون ثمة حصة له في تعيينات موظفي الحاكمية.

قيل ولا يزال يقال الكثير عن قائد الجيش، المرشح لرئاسة الجمهورية في اوساط فريقه الضباط والقريبين منه، وهو يُقدّم – في ما بات يجري منذ اشهر بين وزارة الدفاع وقيادة الجيش – بروفيلاً سلبياً غير مسبوق عنه، الا انه يبعث على القلق حيال ما يمكن ان يكون عليه قائد يصير رئيساً. يتصرّف بغضب وانفعال كيفما ادار واستدار.

من حق قائد الجيش، كما اي مسؤول سياسي في الدولة اللبنانية، الاستغناء عن احد معاونيه او مستشاريه وفسخ عقد عمل معه. يكون الامر عادياً وطبيعياً ان ينشأ عن اختلاف وخلاف في الرأي. عندما لا يكون كذلك، يصبح ذا مغزى مختلفاً.

اخيراً فسخ عون عقداً مع محامي وزارة الدفاع الوزير السابق ناجي البستاني، اقدم محامي الوزارة منذ عام 1968.

برز خلاف عون والبستاني تدريجاً الى العلن قبل ثمانية اشهر. منشأه المساعدات القطرية والاميركية للجيش التي راح قائده يُدرجها في نطاق انها «اموال خاصة» للجيش لا «اموالاً عامة» يقتضي امرارها بديوان المحاسبة وقانوني الموازنة والمحاسبة العمومية. ولأنها «اموال خاصة»، يملك القائد التصرّف بها كيفما شاء بلا رقيب، بما في ذلك عدم اطلاع مجلس الوزراء ونيل موافقته على قبولها بذريعة ان الواهب، كالقطريين، يريد استعجال توزيعها على العسكريين، ولا يرغب في مرورها في مجلس الوزراء عملاً بالقوانين النافذة. رفض عون إخطار مجلس الوزراء بالمساعدات والهبات العينية والنقدية، متمسّكاً بصفتها انها «اموال خاصة». حجة محامي الوزارة تفادي اي ثغرة يخلّفها وجود عون في منصبه في المستقبل فضلاً عن حتمية احترام الاصول المتبعة.

عندما ارسل وزير الدفاع موريس سليم كتابه الى ديوان المحاسبة رافضاً الاسلوب الذي يتبعه عون، فضّل رئيس الديوان القاضي محمد بدران ان ينأى بنفسه عن اشتباك نظر الى خلفيته على انها سياسية (بين الرئيس ميشال عون والعماد جوزف عون)، بأن ناط بالمدعي العام في الديوان القاضي فوزي خميس، الكاثوليكي، النظر في الكتاب. فوزي خميس شقيق العميد المتقاعد جورج خميس الذي لم يتردد في الايحاء لشقيقه بتغليب وجهة نظر القائد. فإذا بالمدعي العام يصدر في 19 كانون الاول 2023، اربعة ايام بعد تمديد ولاية عون في قيادة الجيش، قراراً بـ«حفظ الملف». ما اتخذه خميس لا يعدو كونه رأياً ليس الا. ليس قراراً، ولم يصدر عن الديوان. ليس ملزماً ولا حسماً للملف ما لم يصدر عن ديوان المحاسبة قرار يُعتدّ به.

حمل رأي خميس الرقم 56 في 19 كانون الاول، وكان موضوع مطالعة قانونية رفعها الوزير الى ديوان المحاسبة – وهو المرجعية المخَاطَبة – يثير علامات استفهام حيال رأي المدعي العام المدلى به، متبنّياً وجهة نظر قيادة الجيش والتعويل على مصدر وحيد هو كتاب القيادة لتبرير الهبة القطرية على انها «اموال خاصة»، مع ان رأي خميس يتحدث عن «مساعدة» وليس «هبة»، ما يقتضي حسبانها في «الاموال العامة». كذلك الامر بالنسبة الى الهبة او المساعدة الاميركية. تطرقت المطالعة الى صفقات عقدها قائد الجيش بلغ عددها 20 اتفاقاً بالتراضي بمبلغ 40 مليون دولار، من بينها شراء احذية رانجر للعسكريين على انها من «الاموال الخاصة» لتفادي المرور بقانون المحاسبة العمومية، مروراً ببيع الجيش اسلحة فردية يملكها على انها خردة.

من بعد هذه المشكلة اتت التعيينات الدورية في هيئات المحاكم العسكرية كي تنشأ معضلة جديدة. تبعاً للفقرة الاخيرة في المادة الاولى في قانون القضاء العسكري الصادر في 13 نيسان 1968 «يعطى وزير الدفاع الوطني تجاه المحاكم العسكرية الصلاحيات نفسها المعطاة لوزير العدل تجاه المحاكم العدلية في كل ما لا يتنافى واحكام هذا القانون»، فيما تقول المادة السابعة «يتولى القضاء العسكري المنفرد قضاة من ملاك القضاء العدلي. غير انه يمكن تعيينهم من الضباط المجازين من الحقوق من رتبة ملازم اول فما فوق، واذا تعذّر ذلك فمن غير المجازين». لأن الصلاحية معطاة اليه عملاً بالمادة الاولى، كتب وزير الدفاع الى قائد الجيش الذي سمّى ضباطاً غير مجازين وتمسّك بتعيينهم في المحاكم العسكرية دون سواهم. جُمّدت التعيينات من جراء رفض القائد، ما حمل الوزير، ثلاثة ايام قبل نهاية السنة المنصرمة تفادياً لشغور المحاكم العسكرية وبعد تدخّل رئيس المحكمة العسكرية العميد خليل جابر، على التمديد لقضاتها المعينين عام 2023 حتى شباط المقبل بغية تسيير المرفق. بيد ان القائد امر بمنع دخولهم مقر المحكمة العسكرية، ما نجم عنه تعطيل الهيئات العسكرية الثلاث: محكمة التمييز والمحكمة العسكرية والقضاة المنفردين في الاقضية.

باستشارة البستاني، نشأ خلاف بينه وبين قائد الجيش. بينما لفت الاول الى المخالفة التي يترتب عليها عدم احقاق الحق بتعطيل الهيئات العسكرية، تمسّك الثاني بأسماء ضباط غير مجازين من القريبين منه يصر على تعيينهم رغم معارضة الوزير. عدم احقاق الحق يفتح باب مقاضاة المتضرر الدولة اللبنانية والقضاة المتخلفين. تدخّل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لدى سليم فلم يلن، مصراً على صلاحياته واحكام القانون. ما دام ثمة ضباط مجازون، لا حاجة الى غير مجازين من صفوفهم لتعيينهم قضاة.

في اجتماع عون والبستاني اختلفا مجدداً حيال هذا الملف بعدما اكد المحامي صعوبة امرارها، ناهيك بالصلاحية المقيِّدة للوزير. حدث اجتماعهما في 22 كانون الثاني قبل سفر البستاني في 24 كانون الثاني. في ذلك الاجتماع افصح القائد اخيراً عن موقفه انه لا يسعه الاستمرار في التعاون معه، فرد بجملة مماثلة.
عندما جيء الى البستاني بمسودة فسخ عقد بدأ لاول مرة عام 1968 ،ذيّلها بالعبارة الآتية قبل توقيعه تبلغه اياه: «بعد نيف وخمسين عاماً من علاقة عقدية عضوية من دون مقابل». وقّع فسخ العقد الذي كُشف عنه قبل يومين. كان ناجي البستاني يتقاضى ليرة لبنانية واحدة لقاء موقعه مستشاراً قانونياً.

حتى عام 1964 كان عقد المستشار القانوني يُوقّع مع وزير الدفاع فقط، لكنه يشمل قيادة الجيش. في ما بعد صار يُوقّع مع الوزير ومع قائد الجيش عقديْن منفصليْن. حلّ البستاني في مكتب له في مبنى وزارة الدفاع. هو المستشار القانوني للوزير الـ30 منذ عام 1968 والمستشار القانوني للقائد الـ11.

في 56 عاماً اختبر البستاني فسخ العقد مرتين. الاولى عام 1995 في حمأة الاشتباك بين رئيس الحكومة رفيق الحريري وقائد الجيش العماد اميل لحود. حينذاك رفض الحريري اصدار مرسوم ترقية الضباط في الاول من تموز يكون من بينها اسم العقيد جميل السيّد وترفيعه الى عميد، الى سبعة ضباط آخرين. كان السيد مساعداً اول لمدير المخابرات. لم يكتف الحريري برفض الترفيع بل شطب، خلافاً لجدول القيد والاصول، اسم السيّد في مرسوم الترقيات الموقعة من قائد الجيش. غضب لحود وأمر الضباط المعنيين ومنهم السيّد تنكب الرتبة الجديدة على اكتافهم رغم صدور مرسوم لا يشملهم. بالتزامن تقدموا بمراجعة إبطال امام مجلس شورى الدولة وكان يترأسه الرئيس جوزف شاوول. تقدّم بمراجعة الإبطال محامي وزارة الدفاع ناجي البستاني. خابره آنذاك وزير الدفاع محسن دلول واعلمه بفسخ عقده بناء «على تعليمات من ابو بهاء».

في الاشهر القليلة التالية لمراجعة إبطال المرسوم، قبل صدور قرار مجلس الشورى، سوّيت المشكلة.

ذهب اميل لحود يرافقه ناجي البستاني الى مقابلة رئيس الجمهورية الياس هراوي في مطلع السنة الجديدة في مسعى وضع مراسيم جديدة فيها اسم السيّد وان متأخراً، مرّ بوساطة متشعبة الطرف. حملها رئيس الغرفة العسكرية العميد مصطفى ابراهيم الى الحريري في قريطم يرافقه رئيس مكتب بيروت في فرع الامن والاستطلاع في القوات السورية العقيد رستم غزالي. فاتحا الحريري في توقيعها فرفض. للتو قال له رستم غزالي: «ابو بهاء وقّعْ. المعلم (غازي كنعان) بدو هيك». اذذاك قضي الامر.

عام 1998، مع انتخاب لحود رئيساً للجمهورية، اعيد احياء العقد مع البستاني.

في المرة الاولى فسخه الوزير وابقى القائد على التعامل معه، وفي المرة الاخيرة فسخه القائد وابقى الوزير على التعامل معه.